الجمعة، 31 ديسمبر 2010

الوعظ حين ينفلت من عقال الضوابط

أشد ما يؤذي أن تستمع إلى وعظٍ منفلت من عقال الضوابط والتفهم والعقل, طائفة تدعي الوعظ ولا دخل لها بالفتيا أو الأحكام, وبقليلٍ من التأمل والعمق في عملهم يتجلى تسلل كثير من الأحكام والفتاوى من ثنايا ما يدعونه وعظاً بريئاً, وليتهم يقفون عند تلك الحدود بل يتخطونها ليضعوا أمام الناس منهجاً يسير حياتهم قسراً.

والخطير في عملهم أنهم ليسوا مؤهلين للتصدي, أو التصدر لإطلاق أحكام, أو تقديم منهجٍ في الدين, أو الحياة لا علماً, ولا عملاً.

لا إحاطة لديهم أو إدراكاً لأبسط قواعد وأصول الفقه والوعظ التي تخط التوازن الفعلي بين الشريعة والحياة ليعكس هذا التوازن حقيقة الشريعة كما أرادها الله منهج حياة يتواءم مع متغيرات الحياة الطبيعية, يسحقون بأقدام ألفاظهم المطلقة التي لا تعرف حدوداً, ولا تعترف بضوابط أهم ما يميز الشريعة (المرونة, والسماحة).

المرونة التي تقتضي النظر في أحوال الناس, وما يطرأ على حياتهم من متغيرات اضطرارية هي أصل في طبيعة الحياة البشرية.

والسماحة التي تعني فهماً, بل تفهماً للاحتياجات المتجددة درءاً للمهاجمة, أو المقاومة غير المتبصرة.

ولا أقصد بالمؤهلين المتخصصين في الفقه وأصوله, إذ منهم رغم تخصصه من لا يقل جهلاً, أو جموداً عن تلك الفئة, إنما أردت من تشبعت روحه بإدراك المقاصد, والقواعد الكلية التي هي مبنى الأحكام.

مجتمعنا اعتاد التساهل في جانب الوعظ من قبل الطرفين: الواعظ, والمتلقي حين لا يهتم الواعظ بالغور في أعماق ما يأسر به عواطف وعقول سامعيه دون تمييز بين أمور اجتهادية ظنية هي في أصلها خيارات متعددة غير قابلة للإنكار, وليست مجالاً لأمرٍ بمعروف, أو نهي عن منكر, وبين أمور قطعية لا يصح مخالفتها ليتحول الجميع إلى قطعي لا يقبل (من جانبهم) أدنى مناقشة, أو محاولة فهم.

والأخطر إيمان العامة المطلق بصواب ما يصدر عنهم, وقبوله على علاته إيماناً تعجز أمامه محاولات الإقناع بأن ما قدمه الواعظ في قالب الوجوب والإلزام يمكن العمل بخلافه, لاندراجه في الأمور الخلافية, لا القطعية.

فضلاً عما يحمله هذا النوع من الوعظ من أمور مغلوطة توجه فكر الناس أيضاً في قالبٍ لا يقبل النقاش, والحوار
كم هي خطيرة هذه الفئة, ولعلي لا أكون متجنية أو متجاوزة لحدود العدل, والإنصاف متى ادعيت جازمة أن جل مشاكلنا الدينية, والاجتماعية, والنفسية التي تعلق على شماعة الشريعة ظلماً منبعها عمل هذه الفئة.

وأصرّ على قولي (الاجتماعية, والنفسية), إذ لا يستقيم عمل الفقيه دون النظر في حياة الناس الاجتماعية, واجتهاده لتقديم أحكام لا تقف أمام الاحتياجات الاجتماعية, والنفسية في البيئة التي تطلق فيها تلك الأحكام, بل تراعيها, وتقدرها تقدير الشريعة في ذاتها لها, والناظر في أبعاد الشريعة الإسلامية نظرة صافية من عمل هذه الفئة لا يملك إلا أن يعترف بذلك .
لا يمكن أن أنسى ذلك الموقف عندما كنت رائدة للجنة التوعية الإسلامية في كلية الآداب, كان ذلك في الاجتماع الختامي لأعمال اللجنة, كان يضم جميع الرائدات لجميع الكليات لتقديم رؤية مفترضة لنشاط العام القادم, وكان من بين ما طرحته عناوين لبعض المحاضرات الفقهية التي تعكس اهتمام الشريعة بالنواحي الاجتماعية, والنفسية, عندها نظرت إلى رائدة كلية الاقتصاد والإدارة في دهشة لتقول لي وهي التي أمضيت معها, ومع رائدات الكليات الأخرى سنة كاملة تجمعنا الأنشطة المختلفة, قالت لي (غريب أنت من قسم الدراسات كنت أظنك من علم الاجتماع!!)

اندهشت لدهشتها, وتأكد لي رسوخ ذلك المفهوم لدى الناس, واعتقادهم أن الفقيه لا دخل له بالقضايا الاجتماعية, أو النفسية, وأقصد بـ(لا دخل له) أنه لا يراعيها, ولا يلتفت إليها بل جل همه إصدار أحكام لا تسع الناس, والحياة, وهذا ظلم للشريعة, ومن يملك فهماً عميقاً لها ولأننا قوم عاطفيون لا تجد لدينا كبير صبر لسماع من يتكلم في الشريعة بمنطق العقل, والفكر, وعلى ذلك اعتاد الناس.

إلا أني لا أريد أن أظلم الناس بإلقاء التبعة عليهم كاملة, إذ التبعة تقع علينا نحن الدارسين لهذا العلم (أوفئة منّا) حين ندعي أننا نتمثل منهجاً يعكس روح الشريعة وغنائها, بينما كثير منّا يعكس رؤى خاصة, ويستبد بأفكار ذاتية ساقت إلى اعتياد الناس عدم قبول الأمور الشرعية للفكر, أو الحوار, أو النقاش, واعتيادهم أيضاً أن هناك فئة من الناس إذا قالوا هذا يفعل, وذاك لا, يضرب بقول غيره عرض الحائط, وقد يكون قولهم صواباً إلا أنه ليس الصواب المطلق في الأمور الخلافية التي لا تقبل الاستبداد بخيارٍ واحد وإنكار ما عداه, فضلاً عن محاربة قائليه, إذ ان من اختار أحدها كان من العدل, والإنصاف أن يترك لغيره نفس الحق في الاختيار.

كثير منّا عمّق في أفهام العامة أن الوعظ لا يحتاج إلى فقه, إنه فقط تصفية النفس, وتزكيتها والسمو بها, وهذا مفهوم خطير, واؤكد على كلمة خطير, لأن الوعظ لا ينفك عن الفقه حتى حين الكلام عن تصفية النفس وتزكيتها للتفريق بين مراتب العدل, والفضل, ومتى انفك عنه أدى إلى التخبط, والاضطراب بالنفس, وبحياة الآخرين.

الفقه ميزان الوعظ, والفتيا وعقالهما الذي يمنعهما من الجموح والتضييق وتحجير ما وسعته الشريعة بما تقدمه من خيارات متعددة متمثلة في الأقوال المختلفة.

ولا تضارب, ولا تضاد, لأن الشريعة تمنح كامل الحرية في انتقاء أحد هذه الخيارات (الأقوال), والعمل به تترافق مع هذه الحرية قاعدة جليلة متفق عليها بأن هذه الأمور (أقصد بها الخلافية) ليست مجالاً لأمرٍ, أو نهي.

كما أني لا أكون متعسفة متى زعمت بأن هذا النوع من الوعظ الذي يعد في مجتمعنا الأساس لعمل الناس الديني بصورته المنفلتة عن عقال القواعد, والأسس المنهجية الهادئة, المتروية التي يقدمها الفقه هو السبب في كل الويلات الاجتماعية التي بلينا بها من إرهابٍ, وتعادٍ, وتعدٍ.

هو عامل فعّال في الاضطراب الديني الذي يلمسه المجتمع (ولا ألومه في ذلك), لأنه يظهر الشريعة لا كما هي حقيقتها منهج حياة يحمل في طياته المرونة, والسماحة, بل فرض متعسفٍ لرؤية غير قابلة للنقاش, تشعر أفراد المجتمع وكأنما يحيون في زمن غير زمنهم, ويلبسون ثوباً ضاق عنهم حتى يكاد يذهب بأنفاسهم. لذا احتاج الأمر منّا (ومنّا نحن) إلى هذه الشفافية في طرح الموضوع كي ننبه على خطورته, وننبه العامة الى أننا نعرف بالحق لا العكس.

الخميس، 2 ديسمبر 2010

رسالة امرأة إلى وزارة العدل

يدخل الرجل إلى عقد الزواج ثابت الخطى مطمئن النفس إلى ضمانات لم تمنحه إياها الشريعة الإسلامية بقدر ما منحته إياها اختيارات معينة ضمن مجموعة خيارات متاحة انتقتها من بينها وزارة العدل .
وفي المقابل تدخل المرأة هذا العقد قلقة، مرتبكة لانعدام ضمانات تحقق أمانها واستقرارها النفسي .
ولعلني أورد في نقاط محددة الإجراءات المبنية على الخيارات الإنتقائية لوزارة العدل و التي يمكن استبدالها بخيارات أخرى تتيحها الشريعة تضمن استقرار جميع أفراد الأسرة ( الزوج، الزوجة، الأبناء )، و أمان المرأة بشكل عام .
1- تعمل المحاكم في الخلع بقول الحنابلة القاضي بدفع المرأة المهر للرجل مقابل الفراق حتى لو كان مضراً بها ويسيء عشرتها .
مع أن هناك قولاً للمالكية يقصد إلى رفع الضرر عن المرأة في هذه الحالة ، يجبر به الزوج على تطليقها متى ثبت ذلك للقاضي بسؤال الجيران و الأقارب .
وبالتأكيد هذا لن يفعِّله إلاّ وجود لجنة اجتماعية استشارية تستطيع أن تقف على صدق دعوى المرأة ، ومتى ما ثبتت فرّق القاضي على الزوج دون عوض أو مقابل .
وهذا الخيار المالكي رغم عدم العمل به في محاكمنا إلاّ أنه أقرب إلى النص
الشرعي في حديث ثابت بن قيس عندما قالت زوجته ( ما أعيب عليه من خلق
ولا دين ) ، وفي رواية : ( ما أعتب عليه في خلق ولا دين ) ، ومع ذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقبل الحديقة و طلقها تطليقة ) .
فهو لما كان غير مضرٍ بالمرأة ، كان العدل معه أن تؤدي له المهر الذي يعوضه
بزوجةٍ أخرى .
ومن العدل أيضاً أنه متى كان ظالماً لها ألاّ نعينه على الظلم باستلاب عمر المرأة
ومالها أيضاً ، وقد تكون لا تملك ما تفتدي به نفسها من ظلمه .
2- تعمل المحاكم السعودية بقول الحنابلة في الحضانة القاضي بتخيير الولد بين أبويه، و إجبار البنت في اللحاق بأبيها .
مع وجود قول الشافعية القاضي بتخيير الاثنين، وهو أكثر اتساقاً مع النص الشرعي، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم خيرّ غلاماً بين أبويه، و الحادثة جاءت اتفاقاً في صبي، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأحقية الصبي بذلك دون الفتاة ، مما يجعل قول الحنابلة من أضعف الأقوال الفقهية في المسألة .
وقد كنت كتبت مقالاً مفرداً في مراجعة هذا التطبيق القضائي في المحاكم السعودية بعنوان: ( الحضانة في التطبيق القضائي دعوة إلى المراجعة ).
وهذه القضية تحديداً ترتب عليها بالتطبيق القائم محاذير كثيرة و أضرار جسيمة ربما تلتفت إليها وزارة العدل :
أ‌- كثير من الفتيات سلمن لآباء عنيفين ظالمين بمقتضى هذا الخيار، مما كان سبباً في قتل بعضهن، و اعتداء الجسدي البليغ بالبعض الآخر، وحرمان بعضهن من التعليم وغير ذلك ، وقد كثر ورود أخبار كثيرة من هذا القبيل في الصحف السعودية مؤخراً .
وقد ناديت في مقالي حول التطبيق القضائي القائم بضرورة إلحاق لجان اجتماعية ونفسية استشارية بالمحاكم تساند القضاة في النظر و البحث عن البيئة الأفضل لتربية الأبناء في قضايا الحضانة، والتي لا يشترط أن تكون بيئة الأم، كما لا يشترط أن تكون بيئة الأب حتى في حال تزوج الأم، يظل الهدف هو وضع الطفل في المكان المأمون، على اعتبار أن هدف الحضانة
هو التربية والعمل على ما فيه صلاح المحضون .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي الذي يوجهه إلى الصالح من الأحكام باعتبار النبوة ، والقضاة ليسوا أنبياء؛ لذا كانت حاجتهم شديدة للجان معينة لهم للقيام بواجبهم تجاه الصالح ، حتى لو كان ذلك الصالح بتجاوز وضع الطفل عند أحد الأبوين إذا كان كلاهما غير أهل لذلك ، ووضعه لدى جد، أو جدة، أو قريب أكثر أماناً عليه يستطيع النهوض بهذه المهمة .
ب‌- ربما كان هذا التطبيق يمثل اكبر مصدر قلق بالنسبة للمرأة لأنه يعطل حياتها التي تقدم إيقافها على أبنائها مخافة أن ينتزعوا منها متى تزوجت إلى أب تخشى منه عليهم ، ما يفتح باباً لفتنة كبيرة في الأرض وفسادٍ عريض .
وبذلك تشعر المرأة في عقد الزواج لعنة تمكن الرجل عند الفراق من الاستمرار في حياته بتكوين أسرة جديدة، خاصة في ظل تربية خاصة في السعودية مبنية على ترفيه الذكور دون الإناث، بينما المرأة تقف حمايتها لأبنائها عائقاً أمام ممارسة حقها في الحياة كإنسان .
وهذا يؤكد ضرورة وجود مثل تلك اللجان، ووضع آلية إجرائية لحماية حق المرأة المطلقة في الحياة .
3- يستطيع الرجل أن يتخلص من المرأة متى أحس أنها مصدر أذى له، وحتى لو لم تكن كذلك لمجرد رغبته في ذلك بمنتهى البساطة .
بينما يعسر الأمر أمام المرأة، وتطول الفترة إلى ما لا يقل عن سنة، أو ثمانية أشهر، مع أن المرأة عندما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكية لم يأخذ الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من التفاتة إلى زوجها و أمره بتطليقها .
وبما أن القضاة لدينا ليسوا أنبياء فإن الأمر سيطول قليلاً للبحث و النظر، ولكن في كل الأحوال لا يستحق أن يتجاوز الشهر إلى الشهرين بالكثير .
وليت أن الوزارة تصدر تأقيتاً للقضايا افتراضياً مبني على أقصى فترة يمكن أن تحتملها بناءً على نوعها، خاصة تلك التي يتوقف عليها حياة جماعة و أفراد كالخلع، و الحضانة، و النفقة، وتوزيع الميراث، وما يشبهها من قضايا يحصل بتطويلها ضياعاً للبشر .
4- تعمل المحاكم السعودية بقول الحنابلة في ترتيب الأولياء، والإصرار على أن تقوم المرأة بإحضار أوليائها حتى لو كانوا عاضلين، دون تفعيل حقيقي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( السلطان ولي من لا ولي له ) .
و أحياناً يكون هناك إصرار على تقديم الإخوة على الابن في الولاية على الثيب ، ويكون الابن أكثر تعاطفاً مع الأم في حين يمنعها الإخوة الذين من الأصل لا يمثلون سنداً لها في الحياة .
فإذا كان كذلك يمكن تقديم الابن على الإخوة بناء على قول المالكية، وحين يكون الابن عاضلاً يقدم الإخوة ، وحين يعضل الجميع يفعّل دور القاضي في العقد للمرأة؛ فتحاً لباب الحلال، وحماية للنساء من الوقوع في الحرام .
وقد دفعني إلى قول ذلك حادثة حدثت أمامي في المحكمة ، حيث جاءت إحدى النساء بابنها البالغ من العمر 18 سنة ليكون وليها في عقدها لأن إخوتها لا يدرون عنها ولا ينفقون عليها، وهي امرأة لا تعمل وقد تقدم لها من هو مستعد للإنفاق عليها و إعالة أبنائها .
وقد هالني خروجها تصرخ بكل صوتها تقول: جئت طالبة للحلال،ولم تتركوا لي طريقاً غير الحرام .
لا أستطيع نسيان صوتها، وغضبها رغم مرور ست سنوات على ذلك.
ليت وزارة العدل تقف موقفاً حازماً من الولاة الواقفين حجر عثرة أمام تزويج النساء، و أن تحقق تسامحاً في قضايا الكفاءة؛ حيث أن الزواج بغير الكفؤ نسباً دام أنه صاحب دين وخلق وتعليم، خيرٌ من الوقوع في الحرام، ولا يعد عدم تحققها مادام قد تم العقد برضا المرأة ووليها المباشر للعقد سبباً لشتات عائلة لمجرد أن هناك من لا يريد ذلك .
5- وضع قانون إجرائي يعاقب على تزويج القاصرات لحمايتهن من العنف و الاعتداء الجسدي، والنفسي .
6- عندما تلجأ المرأة إلى القضاء لأي أمر يطلب منها معرف، بينما لا يطلب ذلك من الرجل مع أن كلاهما يحمل بطاقة تعريفية، مما يعطل شؤون المرأة ومصالحها ،وربما أوقع بها ضرراً، كضرورة إيقاف عمل وكيل، وهي لا تجد من هو متفرغ للذهاب معها للمحكمة لتعريفها مما يجعل وكيلها يستمر في التصرف لها بما يضرها ولا تملك إيقافه .
و إذا كان الدافع لطلب المعرِّف هو غطاء المرأة لوجهها فإنه من المعلوم أن
الشريعة تجيز للقاضي النظر إلى وجه المرأة متى دعت الحاجة، وهذا معروف
حتى في المذهب الحنبلي .
هذه رسائلي إلى وزارة العدل مبنية على خيارات شرعية قد تكون سبباً في رفع
الكثير من معاناة المرأة السعودية .

الجمعة، 12 نوفمبر 2010

الأبعاد النفسية والاجتماعية في الأحكام الشرعية( الولاية على البكر البالغة العاقلة أنموذجاً )

قد يختلف المسلمون في تفاصيل كثيرٍ من الأمور الشرعية، وهو خلاف مساغ فرضته طبيعة التعامل مع النصوص و احتمالاتها المختلفة .
لكن الأمة لا تختلف على أن الله عزّ و جلّ أراد لهذه الشريعة العظيمة أن تكون منظماً لحياة الإنسان تهدف إلى سعادته ورفع الحرج عنه .
والتعاطي مع الشريعة على أنها تقاطعات حديّة، و انحصار الفتوى في قوالب الأحكام التكليفية الخمسة بعيداً عن ملامسة الحياة وطبيعتها المعقدة والمتشابكة ليبعدها عن أهم سماتها من المرونة و السماحة التي كثيراً ما يفخر أبناء الإسلام بتميز شريعتهم بها .
هذا الحسّ عند معالجة الفتوى يغيب كثيراً عن الطروحات الشرعية التي في الغالب ما تقتصر على عرض آراء العلماء، و أدلتهم، ثم لا تتجاوز الترجيح، مما قد يخلق مشكلاتٍ اجتماعية، أو نفسية عند التطبيق و الإسقاط على أرض الواقع .
و الفقهاء رحمهم الله لامسوا هذا الجانب كثيراً في ثنايا ما سطروه وما أُثر عنهم، الأمر الذي يؤكد إحساسهم بتوقع ربكةٍ قد تحدثها الفتوى إذا لم تسقط على حياة الناس و تتعامل مع التعقيدات الدقيقة لإنسانيتهم وواقعهم .
وقد تكون مسألة الولاية على الفتاة البكر البالغة إحدى الشواهد المعززة لذلك؛ إذ أن الفقهاء عندما قرر بعضهم جواز إجبار الفتاة البكر البالغة على الزواج ترسخ ذلك في صميم الثقافة العربية و البنية العقلية لدى المسلمين، وعليه اعتقد بعض الأولياء في الولاية سلطة تمنحهم أحقية فرض إرادتهم ونظرهم المستقل على حياة تلك المرأة ومصيرها الأسري .
و انطلاقاً من هذا التصور – أي تصور الولاية كحق خالص للولي – يعمد بعض الأولياء إلى إكراه الفتاة إمّا على الزواج بمن لا ترغب، أو في الطرف الآخر يعمد بعضهم إلى عضلها والوقوف حجر عثرة أمام رغبتها فيه، والمشكلة الاجتماعية الحقيقية في اعتقادهم في كل ذلك شرعية ما يسلكون .

وهذه القضية ذات أبعادٍ خطيرة باعتبار أن الزواج منعطفاً مفصلياً في حياة الجنسين و الأسرة و المجتمع أيضاً باعتباره الحاضن الكبير و المصب الأخير لآثار السلوكيات الفردية .
هذا المشكل عزّزه انتشار الخطوط العريضة لأقوال الفقهاء في هذه المسألة بين عامة الناس دون تفاصيلها الدقيقة مما حوّلها بسطحية تلقيها عن الفقهاء إلى ثقافة مجتمعية .
في حقيقة الأمر أن المدقق في كلام العلماء، و الناظر في زواياه المختلفة، و السابر لتعليقاتهم المترافقة مع الحكم الشرعي يوصله التدقيق والسبر إلى التقائهم حول مركز جوهري من اعتبار المصلحة ودرء المفسدة رغم ما يبدو للنظرة الخاطفة من تضادٍ وتوازٍ في خطوط اتجاهاتهم .
ومما يبرهن على ذلك أن جمهور علماء المالكية، و الشافعية، والحنابلة الذين أجازوا إجبارها مخالفين بذلك الحنفية المانعين، هؤلاء الجمهور رغم تقريرهم ذلك في خطوط أقوالهم العريضة إلاّ أنهم وضعوا شروطاً وضوابط وسياجات تضمن الحماية من وقوع الضرر في السلوك الاجتماعي عند التطبيق ، ويمكن حصر هذه الاحتياطات فيما يلي :
أولاً: يحصر المالكية والحنابلة هذا الحق في الأب فقط؛ لكمال شفقته في الغالب، وعدم مساواة غيره له فيه، والشافعية يضمون إليه الجد لمساواته للأب في الشفقة والنظر لها .
يقول الإمام ابن تيمية:( وليس للعم، ولا لغيره إجبار البالغة على النكاح بكفء، فكيف بغير كفء ) .
ثانياً: رغم حصرهم الإجبار في الأب والجد إلاّ أنهم لا يجعلونه منفلت عن الضوابط التي تضمن عدم الانحراف إلى التعسف في استعمال الحق، فاشترطوا الشروط التالية :
1- ألاّ يكون بينها و بين الولي عداوة ظاهرة
2- أن يزوجها من كفء مع اختلاف نظرهم في خصال الكفاءة و التقديم و التأخير بينها.
3- أن يزوجها بمهر مثلها .
4- أن يكون المهر من نقد البلد .
5- ألاّ يزوجها من معسرٍ بالمهر .
6- و تفرد الشافعية باشتراط انتفاء العداوة بينها وبين الزوج، مع ملاحظة عدم تقييدها هنا بالظاهرة التي وضعوها للأب، مما يدل على اشتمالها للعداوة الباطنة أيضاً، وهذا يشير ضمناً إلى اعتبار الرضا .
7- كما أضاف الحنابلة أن يكون الولي- وهو الأب عندهم – راشداً عارفاً بالمصالح، لا شيخاً كبيراً جاهلاً بالمصلحة .
ثالثاً: المالكية مع سيرهم في الاتجاه القائل بجواز الإجبار في الجملة إلاّ أنهم يقررون حالات لا يصح فيها إجبار الفتاة البكر البالغة على الزواج أو عدمه، وتتلخص في الحالات التالية :
1- البكر التي تقدم بها السن؛ إذ هي بحكم سنها لديها معرفة بالمصالح و المفاسد والموازنة بينها .
2- المرشّدة: ويقصد بها التي اعترف لها أبوها بالرشد في التصرف لحسن تصرفها، فهذه حق لها إطلاق إرادتها في الاختيار اطمئناناً إلى قرارها .
ولعل هذه الشرارة المالكية تقرر دور التربية، و التنشئة الاجتماعية في ترشيد الإنسان بصفته إنساناً بغض النظر عن الجنس .
رشد أفراد المجتمع ما هو إلاّ انعكاس طبيعي لترشيد المجتمع، وقد يتخذ ترشيد المجتمع للرجل نموذجاً صالحاً للقياس عليه .
فالمجتمع يرشّد الرجل كجنس رغم أنه يوجد في آحاد الرجال من ليس براشد، بل وفي آحاد النساء من هنّ أرشد من بعض آحاد الرجال، والعكس صحيح؛ إذ الرشد حالة عقلية ونفسية لا تخلق في الفرد بحكمٍ خارجي منفك عن تأصلها في ذاته من خلال التربية، والتنشئة الاجتماعية، إضافة إلى الاستعدادات الشخصية، يقول الله عزّ و جلّ:( أليس منكم رجل رشيد ) .
وقد لفت النظر إلى ذلك الإمام الشافعي رحمه الله حين قال :
( والرجل في بعض أمره في معنى الأيامى الذين على الأولياء أن ينكحوهن إذا كان مولى بالغاً يحتاج إلى النكاح، ويقدر بالمال فعلى وليه إنكاحه، فلو كانت الآية و السنة في المرأة خاصةً لزم عندي الرجل؛ لأن المعنى الذي أريد به نكاح المرأة العفاف لما خلق فيها من الشهوة وخوف الفتنة، وذلك في الرجل مذكور في الكتاب؛ لقول الله عزّ وجلّ:( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ..... ).
فالإمام الشافعي وهو الذي يرى جواز إجبار الفتاة البالغة على الزواج خوفاً عليها من الفتنة التي قد تجرها إليها الشهوة فتعمي فيها بصيرة الرشد، يرى أن ذلك متحقق في الرجل بل و بالنص الشرعي الذي أورده مما يكون مبرراُ قوياً في تساويه مع الأنثى في هذه النزعات النفسية التي فطرها الله عليها، وعليه بنى أن من حق الولي فرض الزواج عليه جبراً حماية له ولمحيطه المجتمعي .
و هي لفتة دقيقة من الإمام الشافعي رحمه الله في رصد المعتملات النفسية للجنسين، و إنصاف يؤكد حضور بصيرة الفقيه واقع الحياة والناس .
قد نختلف معه في الإجبار وقد نتفق، إلاّ أننا لا نملك إلاّ أن نتفق معه على مبدأ المساواة الذي تؤسسه الشريعة الإسلامية حين تتعامل مع النفس الإنسانية كنفسٍ محترمة تعتملها جميع المشاعر و الاحتياجات بغض النظر عن جنسها .
ثم إن المرأة التي يتحدث عنها الفقهاء هي امرأة زمانهم التي عاشت تلك العصور وكان دورها في الغالب منحصراً داخل بيتها، ولم يشهد لها زمنها حضوراً أو مشاركة كبيرة في التنمية الاجتماعية، وهي غير امرأة اليوم التي وصلت لأعلى المناصب والمراكز العلمية و الإدارية تاركة خلفها بصمة عميقة الأثر لا يمكن إنكارها في جميع المجالات .
امرأة كهذه كيف يملك المجتمع عدم الاعتراف برشدها وقدرتها على التصرف و اتخاذ القرارات لغيرها، فضلاً عن اتخاذها لنفسها من باب أولى، فالقضية في منتهاها لا تعدو عن كونها عرفاً اجتماعياً لحالة نفسية للجنسين في وقتٍ معين تغيره الأعراف و الحراك الاجتماعي .
3- البكر التي عضلها وليها ومنعها من الزواج سواءً كان المانع أباها، أو غيره .
4- البكر التي زوجت بعَرَض- أي بغير الذهب والفضة – وهي من قومٍ لا يزوجون به، ولا أب لها ولا وصي ينظر في مالها .
5- البكر التي يزوجها غير أبيها .
6- كما لا تكره الفتاة على الزواج بذي عاهة .
رابعاً: حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم الذي هو مستند الاتجاهات المختلفة في الولاية:( الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها و إذنها صماتها )، ليس مقتضاه التفرقة بين البكر و الثيب في الإجبار وعدمه بقدر ما هو إلماح متكئ على الواقع لنفسية المرأة بين الثيوبة والبكارة؛ فلما كانت الثيب أكثر خبرة بأمر الزواج، وربما تعرضت للفساد لو منعت، كان لها أن تخطب إلى نفسها، و أن تأمر وليها بتزويجها وتطلب الزواج .
على خلاف نفسية البكر الأكثر ميلاً إلى الحياء وعدم الإفصاح و التي رتب عليها الشارع أن يكون سكوتها إحدى العلامات التي ترجح قبولها للزواج، وإن كان ليس علامة يقينية حين يخضع للتغيرات الاجتماعية عبر الزمان والمكان، وقد لفت لذلك الإمام ابن حجر، وابن تيمية، وابن رشد الحفيد رحمهم الله، ولهم في ذلك كلام في غاية النفاسة .
خامساً: نظر كثير من فقهاء هذا الاتجاه إلى اعتبار رأي الأم في تزويج ابنتها لما له من أثر نفسي و اجتماعي في استقرار حياتها الزوجية؛ استناداً إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:( آمروا النساء في بناتهن ).
يقول الحطّاب وهو احد علماء المالكية :
( لأنه إذا كان برضاها حسنت صحبة زوج ابنتها ).
سادساً: القائلون بإجبارها يقولون بعدم جواز تزويج أمتها بدون رضاها فيكون القول برضاها لنفسها من باب أولى .
سابعاً: يعتبر القائلون بالإجبار المرأة رشيدة في مالها لا تجبر على تصرفٍ معين فيه، كما لا يجوز التصرف فيه دون رضاها، فإن كان هذا شأن المال الذي لا يترتب على ضياعه مفسدة بحجم ضياع النفس و المجتمع فيكون في شأن النفس من باب أولى .
وبهذا يظهر أن خلاف الفقهاء حول اعتبار رضا المرأة في العقد بالتفاصيل التي أوردتها عنهم لمؤشر قوي على إحساسهم بالأبعاد التي تحدثت عنها، وإدراكهم لآثار الإجبار في تعاسة الفتاة وإلحاق الضرر بها، وربما عدم إعفافها الذي هو المطلوب الأعظم للزواج عندما لا تكون مقتنعة بالزوج، وربما أدى بها ذلك إلى التطلع لغيره مما ينعكس سلباً على أسرتها وعلى المجتمع .
وهذا يعضد أن أحكام الفقهاء لم تنفك عن النظر المقاصدي في الإصلاح على الصعيدين النفسي و الاجتماعي قصداً إلى إرساء سفينة المجتمع بما فيه من تقاطعات حقوقية، فردية وجماعية على واقعٍ متسقٍ سعيد، سفحه الأمان، وقمته سعادة الإنسان .
يروي الإمام ابن أبي شيبة عن السيدة عائشة رضي الله عنها:( أنها كانت إذا هوى الفتى من بني أخيها الفتاة من بني أختها ضربت ستراً بينهما وتكلمت فإذا لم يبق إلاّ النكاح قالت: يا فلان أنكح فإن النساء لا ينكحن ) .
وهذا الأثر عن السيدة عائشة رضي الله عنها وبعد نظرها يهوِّن الخلاف حول اعتبار كلمة المرأة في العقد ومباشرتها له بنفسها .
لأن الزواج متى تأسس على أرضية اجتماعية جيدة متفهمة لرغبة ورضا أفرادها لن يضير بعدها من يباشر العقد.
بل عندها يظهر الدور الحقيقي للأولياء كما أراد الشرع في معاضدة المرأة ومساندتها في أهم قرار تتخذه لنفسها، ويكون تولي عقدها بعد موافقتها مشاركة لها في فرحتها؛ وإرفاعاً لقدرها ومكانتها؛ ونيابة عنها في وقتٍ تكون فيه مشغولة بما يتطلبه الزواج من أمور زينتها، فيتم في جو ملئ بالحب و السعادة .
يعضد هذا المعنى مفهوم الولي في اللغة المتردد بين هذه المعاني جميعها، فهو الصاحب، والنصير، والمحب، والحليف، والشريك، والقريب، والجار، وليس هو المستبد، أو المتسلط، أو القائم عثرةً في سبيل سعادة المولى عليها .
وهكذا يظهر أن الفقهاء عاشوا واقع أزمانهم بأحداثه وتفاعلوا معه ربما أكثر مما صنع خلفهم و مما صنعنا نحن أيضاً .

الخميس، 14 يناير 2010

الحضانة في التطبيق القضائي دعوة للمراجعة

من الحين للآخر تطالعنا الصحف المحلية السعودية بقصص الفتيات اللاتي يعانين الضيم والظلم، على يد بعض زوجات الأب القاسيات واللاتي أحيانًا يشاركهن الآباء فيما يقترفن من همجية ووحشية تغتال براءة هؤلاء الفتيات المغلوبات على أمرهن.

عامان مرت على قصة "الطفلة غصون" ولا تزال تفاصيلها المؤلمة تعتصر قلبي، وصورتها التي شوهت بكل أصناف التعذيب تطل على ذاكرتي؛ فهذه الطفلة المسكينة ابنة الأعوام العشر والتي أجبرت على الالتحاق بأبيها بعد فراق الأم له؛ بسبب قسوته ووحشيته، قد مورس عليها ما لا يمكن تصديقه من سلوكيات وحشية تكمن وراءها نفسيات شاذة يستحيل أن تنطوي على ذرة من الإنسانية، حيث كان الأب وزوجته التي اقترن بها بعد فراق "أم غصون" يتناوبان على تعذيبها، ففُقئت عيناها بالفرجار (البرجل)، وطُعنت بآلة حادة تحت السرة، وأُحرقت في مواضع متفرقة من جسدها، وحُرمت الطعام والشراب، وضُربت بعنف مما خلّف كدمات شديدة على وجهها وجسدها الضعيف حتى فارقت الحياة.

سلوكيات شاذة

هؤلاء الأطفال الذين ابتلوا بانفصال والديهم (ذكورًا وإناثًا) يحتاجون إلى النظر في أمرهم بصورة أكثر فاعلية لحماية ضعفهم من سلوكيات شاذة تسقط عليهم.

لفتة أوجهها لوزارة العدل في السعودية بتأسيس لجان اجتماعية تُلحق بالمحاكم الشرعية تشارك القضاء النظر في قضايا الحضانة وإلحاق الأطفال -ذكورًا وإناثًا- بأحد الأبوين.

تبحث هذه اللجان في معرفة البيئة الأفضل في تربية هؤلاء الأطفال بغض النظر عن كونها بيئة الأب أو الأم، إنما يكون الهدف هو وضع الطفل في البيئة القادرة على تنشئته النشأة الصالحة نفسيًّا واجتماعيًّا؛ ليصبح مواطنًا صالحًا يساهم في بناء أمته ووطنه بدلاً من أن يكون وبالاً عليها.

الأطفال ثروة بشرية تستحق تكلف الجهد من أجل توفير أنسب المناخات لإنمائها، والمجتمع بكل مؤسساته الذي يَكلَف في بنائهم هو المستفيد الأول وهو الذي يشقى متى توانى في حقهم ماديًّا أو معنويًّا.

تعمل المحاكم السعودية في قضية الحضانة والإلحاق وفق المذهب الحنبلي الذي يذهب إلى إجبار الفتاة على الالتحاق بأبيها، وتخيير الصبي بين أحد الوالدين متى بلغ كلٌّ منهما سن السابعة، اعتمادًا على الحادثة التي وقعت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تحكي قصة امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنها الذي كان يقوم على مصالحها من إحضار الماء والطعام، تشكو والده الذي يريد انتزاعه منها، وتروي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم التفت إلى الصبي قائلاً: "هذا أبوك وهذه أمك فاختر أيهما شئت"، فأخذ بيد أمه فانصرفت به.

مراجعات شرعية

وهذه الحادثة أولاً: لم تذكر أن هناك ضررًا سيقع على الصبي بالتحاقه بأبيه أو ببقائه عند أمه؛ إذ إن كلتا البيئتين كما يبدو من الرواية كانت صالحة لتربيته إلا أن احتياج الأم إليه كان أشد؛ لذلك خيره النبي صلى الله عليه وسلم فكان ما اختار.

ثانيًا: هذه القصة وقعت اتفاقًا في شأن طفلٍ ذكر، بمعنى أنه لم تقع حادثة أخرى في شأن فتاة -أو لم تنقل على الأقل- حتى نعلم منها ما سيكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهو ما يشير إلى أن هذا الحكم -أي التخيير- هو حكم كل طفلٍ هذا شأنه، سواءً كان ذكرًا أم أنثى؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: وهذا حكم الصبي أما الفتاة فإنها تجبر على التحاق بأبيها، وهو بيان مهم للجزم بالإجبار، وتأخير البيان عن وقت الحاجة إليه محال في حق الأنبياء عليهم السلام؛ لذلك يُستغرب جزم الحنابلة بإجبار الفتاة دون الصبي لمجرد أن حادثة التخيير وقعت لصبي، وليس ثمة دليل لا من قريب ولا من بعيد يشير إلى ذلك؛ لذلك تجد الشافعية يذهبون إلى تخيير كلٍّ من الجنسين (الذكر والأنثى) اعتمادًا على ذات الرواية.

ونظر كلٌّ من الحنفية والمالكية إلى المصلحة على اعتبار أن مفهوم الحضانة هو التربية والإحاطة بالرعاية والإصلاح؛ لذلك تجدهم لا يقرون قضية التخيير من أصلها، سواءً للولد أو الفتاة؛ لأن الطفل إذا خُيّر فإنه لغلبة هواه وعدم معرفته بمصلحته ولقصور عقله قد يختار غالبًا من عنده الراحة وعدم الحزم وإن لم يتحقق فيه النظر له.

من هذا المنطلق نجد الحنفية يحكمون بإجبار الصبي بعد سن السابعة على الالتحاق بأبيه إلى سن البلوغ لحاجته إليه أكثر من حاجته إلى أمه في تنشئته على التخلق بآداب الرجال وأخلاقهم، وبعد البلوغ يُخير بين أبويه، وإن أراد أن ينفرد فله ذلك إلا إذا خُشي عليه.

ويرى المالكية المصلحة في تركه عند الأم إلى البلوغ على اعتبار أنها أكثر تفرغًا من الأب للتربية، وبعد البلوغ له أن يذهب حيث يشاء أيضًا ما لم يُخش عليه.
أما البنت فكلا المذهبين يرى المصلحة في تركها لدى الأم بعد السابعة لشدة احتياجها إليها في تعلم آداب النساء وشئون إدارة البيت، وكيفية التعامل مع فترة البلوغ الحرجة.

لذلك تمتد عند الحنفية حضانة البنت إلى سن البلوغ وبعدها تجبر على الالتحاق بأبيها دون تخيير، بينما يتوسع المالكية لتمتد حضانة البنت عند أمها إلى أن تتزوج وتنتقل إلى بيت زوجها حتى لو بلغت البنت ثلاثين أو أربعين سنة قبل أن تتزوج، وطبعًا في جميع الحالات ما لم يُخش على الطفل، سواء كان ذكرًا أم أنثى من ضررٍ أو فساد.

مصلحة الطفل

وهكذا نلمس الاختلافات المتشعبة والكثيرة حول رؤية تضمن أفضل تنشئة للأطفال في ظل ظروف فراق الأبوين، وهذا ما يؤكد ضرورة النظر في العلة الحقيقية من الحضانة والتي هي رعاية المحضون وحمايته من الضرر وحماية المجتمع منه عند تجنيبه أسباب التشرد والانحراف، وهذا ما يدفع إلى مناشدة القضاء السعودي إلى تشكيل لجان اجتماعية تنظر في البيئة الأصلح لاحتضان هؤلاء الأطفال، بعيدًا عن التطبيق الروتيني المحض بإجبار البنت على الالتحاق بأبيها وتخيير الولد؛ إذ ليس بالضرورة أن تكون المصلحة في ذلك.

وقد أشار الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى عندما قال:

(ولو كان الأب عاجزًا عن حفظها أو يهمله -أي الحفظ- لاشتغاله عنه، أو قلة دينه، والأم قائمة بحفظها قدمت).

وقال أيضًا:

(إذا قُدِّر أن الأب تزوج بضرة وهو يتركها عندها وهي لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها أو تقصِّر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها فالحضانة هنا للأم قطعًا).

وهذا يؤكد أن مدار الأمر على المصلحة.

وهنا كلمة لا بد أن توجه إلى الآباء والأمهات قبل القضاء بأنهما مهما احتدمت الخلافات بينهما فإن الأمر إذا وصل إلى الأولاد فإن عليهما التحلي بالحكمة والروية والنظر بعقلانية في مصلحتهم، فيعملان حتى بعد الفراق وذهاب كلٍّ في حاله وتكوينه لحياةٍ جديدة على التعاون يدًا بيدٍ من أجل الحفاظ على فلذة أكبادهما وحمايتهم وتوفير أفضل الأجواء الملائمة لإصلاحهم، والوصول بهم إلى مرافئ الأمان إلى أن يبلغوا سنًّا يكونون فيه قادرين على القيام بأمرهم، وألا يسمحا للخلافات التي أدت بهما إلى الفراق أن تتجاوز مخالبها لتُطال الأطفال الأبرياء الذين لا ناقة لهم في كل ذلك ولا بعير.



Read more: http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-AdamEve%2FAEALayout&cid=1199279964345#ixzz0caOaNA1p

الجمعة، 8 يناير 2010

الأبعاد النفسية والاجتماعية في الأحكام الشرعية ( الخلع أنموذجاً ) .

لم تكن الشريعة المنطلقة من دقائق تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في غفلةٍ عن الإحساس بالنزعات الإنسانية، والحاجات النفسية، والأبعاد الاجتماعية.
كانت تلك النزعات مبرراً رئيساً لصدور أحكامٍ وتشريعات محترمةً لها، ومدركة خطر إغفالها في سيادة ثغرات وخلخلات اجتماعية حتمية .
ولعلني أعطي نموذجاً لنصٍ شرعي عكس أحكاماً لم يبررها إلاّ النظر في أبعاد النفس، وتقدير ما ينتج عن إهمال حاجاتها .
فهاهي امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنهما في حديث الخلع تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول نصاً: ( ما أعيب عليه من خلقٍ ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام ) .
لم تشر الرواية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل المرأة عن السبب الذي دفعها لقول ذلك والرجل كما تصف مكتمل الدين والخلق، كما أنها لم تشر أيضاً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وبخ، أو أنب، أو قال: خافي الله يا امرأة، أو اتقِ الله، كل ما تفوه به النبي صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة: أتردين عليه حديقته ؟ ( مهراً أمهرها إياه )
فقالت: نعم .
فالتفت إلى ثابت التفاتة تنبئ عن سرعة استجابة لطلب المرأة في الفراق قائلاً: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة .
وكلما دققنا النظر في مقالة المرأة ازددنا دهشة من دعوى لا توصل مقدمتها إلى النتيجة التي انتهت إليها .
فإذا كان الرجل كما تصفه بملء فيها لا خلل ظاهر في دينه وخلقه فلماذا كانت الدعوى أصلاً .
و ما الذي ألجأها إلى التهديد بكلمة الكفر التي ارتدع المسلمون عن النطق بها في أشد المواقف مأزقاً في موضع الابتلاء أمام قريش وجبروتها وسومها لهم بأصناف العذاب .
وأين تفوهت بها ؟
في مجلس قضاء أمام سيد الأنام نبي الإسلام، وحاكم الأمة، وقاضيها .
لو صدرت هذه الشكوى أمام أحد قضاتنا لاعتبر ما ذكرته المرأة تبجحاً، ولربما عزرها بعقوبة رادعة لها ولغيرها عن الجهر به، أو ربما حكم عليها بالردة وطالبها بالنطق بالشهادتين .
ولو همست بها لصفيّ بغرض التنفيس لما نجت من سياط اللوم، ولاتهمت
بالجحود لنعمة الكريم الذي منّ عليها بهذا الرجل النفيس.
إلاّ أن الرواية تخبرنا بأنّ شيئاً مما توهمناه مما هو مبني على تصور الطبيعي في حياتنا لم يقع .
لم يلم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتب، لم يؤنب ولم يعاقب، لم يأمر بالصبر والتصبر، لم يهمل الدعوى ولم يؤجل إلى فترات متباعدة تموت على أثرها النفس على النفس حسرة لضياع عمرها .
رغم مقدمة المرأة المنصفة للرجل الواصفة له بالخلق والدين يلتقط النبي صلى الله عليه وسلم ألماً نفسياً فاحشاً خلفها وشى به قولها: ( ولكني أكره الكفر في الإسلام )، دفع إلى سرعة الاستجابة و أمر الرجل بالفراق .
ورغم تفسير أهل العلم لقول المرأة: ( ولكني أكره الكفر في الإسلام ) بأحد تأويلين :
الأول: أنها تكره الخروج عن ملة الإسلام، ولكنها ستفعل إن كان هو السبب في فراقها للرجل؛ إذ أن الشريعة تحكم بالتفريق بين الزوجين في حال ردة أحدهما .
الثاني: أنها تكره أن تكفر به كعشير فتمتنع عن إجراء حقوقه الواجبة عليها.
إلاّ أنني رغم ذلك ألمح في مقولتها ملمحاً آخر ألا وهو خوفها على نفسها الفساد والانحراف .
يعززه إيراد الإمام ابن حجر رحمه الله في ثنايا شرحه للحديث في كتابه فتح الباري روايةً تبرر فيها المرأة طلبها لفراق زوجها البعيد عن النقائص تقول فيها : ( كنت أرفع الخباء فأراه مقبلاً في القوم أقصرهم قامةً، و أقبحهم منظراً ) .
فقولها ( مقبلاً في القوم ) يُظْهِر أنها كانت تقارن بينه وبين غيره من الرجال الذين قد يكون بينهم مما قد يستتبع دفعها قسراً إلى الافتتان .
ثم هي لم تقل: كان قبيحاً قصيراً، و إنما ذكرته في إطار المقارنة بينه وبين رفاقه المستوجب لطول تدقيق تأمل .
ويعزز ما ألمحت إليه أيضاً تعبيرها بـ ( أكره الكفر في الإسلام ) ، دون التعبير بـ ( أكره الكفر بعد الإسلام ).
لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم رغم هول كلمة المرأة عندما وجد نفسه أمام عبارة فاضحة لمعاناة ثقيلة ونفسٍ متأرجحة بين الثبات على الدين والانقلاب عليه أو على ما يقتضيه من آداب و أخلاق لثوران نزعاتٍ نفسية ملحة بغض النظر عن تجسدها في شعورها بالألم لظلم من لا يستحق- أقصد به زوجها الذي وصفته بالدين والخلق – أو لخوفها من الوقوع في مهاوٍ تنأى بنفسها عن التردي إليها .
وعلى جميع التكهنات والافتراضات فإن النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان شعر بمعاناة النفس فحكم بما يرفعها، وحكم أيضاً بما يحمي به المجتمع جراء انفجارها والثورة على متجاهلها ، فكانت ردة الفعل في سرعة الاستجابة وفي الإعذار بتجنيب قسوة الملامة والعتاب .
ولو أن القضاة لدينا استلهموا السلوك النبوي وساروا على نهجه لما طال نفس القضايا في أروقة المحاكم ولما وجدت كثير من النساء أنفسهن بين مطرقة اللوم وسندان التسويف .
ولعلني في دراسة أخرى لوجه قضية شرعية أخرى أعزز الاعتراف بحاجتنا لذلك البعد الإنساني عند التعاطي مع القضايا الشرعية .

التفريق بين فاطمة ومنصور عرف شرعي أم شرع عرفي

كنت أتابع البرنامج التلفزيوني اليوم السابع على قناة mbc الفضائية عند عرضه للقضية التي أثارت جدلاً كبيراً بين فئات المجتمع السعودي المختلفة، أقصد بها قضية الفرقة بين الزوجين لعدم تكافؤ النسب، ولاحظت اختلاف ضيوف الحلقة حول اعتبار القضية شرعية أم عرفية؟ وقبل الخوض في إبداء ملاحظاتي ورأيي حول هذه القضية من منطلق تخصصي في نظرية العرف وأثرها في الأحكام الشرعية، أود أن أقف عند بعض النقاط التي لم يلتفت إليها الضيوف الكرام في خضم خلافهم حول بعض الجزئيات...

تفنيد الآراء

أولاً: هم لم يكونوا مختلفين جوهريًّا برغم ما بدا بينهم من اختلاف لفظي، بمعنى أن الجميع كان مقرًّا أن ثمة خطأ، إلا أن منهم من كان جريئاً واتهم القضاء، ومنهم من تحرج في نسبته إليه، وهذا الأخير ناقض نفسه عندما حدّد الخطأ في مجانبة السير مع المصلحة التي تنظر إلى الأطفال والأسرة، ثم تمييعه نسبة ذلك إلى من همّش هذه المصلحة في مقابل ما لا يعدّ مصلحة أصلاً، وإن عُدّ كذلك فهي مصلحة جزئية لا تعتبر في مقابل مصالح كثيرة، ودرء مفاسد أكثر تم إغفالها ليكون بذلك قد أقر ضمناً بأن القضاء قد أقدم على هذا الخطأ عندما لم يراعِ تلك المصلحة، لننتهي إلى الاتفاق على وجود الخطأ، سواء اعتبرت القضية شرعية أم عرفية اجتماعية.

ثانياً: اختلاف وجهات النظر -الذي أعتبره لفظيا- وشدة الجدل حوله أثار غباراً حجب الرؤية عن تقليب منطلق الحكم الذي أصدر في هذه القضية، ألا وهو نص الحنابلة في كتبهم، على اعتبار قول من أحدث من الأولياء، وإعطائهم الحق في فسخ نكاح قد تم بضوابطه الشرعية، وعقد بموافقة الولي الأقرب ورضا المرأة، وهو قول لا يستند إلى نص لا قطعي ولا ظني، ولا ما يقرب أن يكون نصاً، كما أنه لا يوجد من العرف أو العقل ما يعضده؛ لأن العمل به يلزم منه عدم بقاء نكاح لازم ثابت على وجه الأرض؛ إذ إن كل من عنّ له أن يفرّق بين الزوجين من الأولياء إذا أجزنا له ذلك نكون قد أعناه عليه، وهذا غير مقبول شرعاً أو عقلاً أو عرفاً لإيصاله إلى عدم الاستقرار والأمان الأسري الذي قامت كثير من الأحكام الشرعية والعقلية والعرفية على حمايته.

ثالثاً: أتفق تماماً مع من يرى ضرورة تدخل الدولة لإلغاء قرار المحكمة بفسخ نكاح فاطمة من منصور طرفي القضية التي أثارت الجدل؛ تجنباً لأبعاد اجتماعية خطيرة لا أعتقد من أصدر هذا الحكم التفت إليها، ولن يدرك مداها وينتبه لها إلاّ عندما تكثر قضايا طلب التفريق بين زوجين تم زواجهما بموافقة شرعية، وكونا أسرة، وأنجبا أطفالاً لمجرد أن الأخ، أو العم، أو ابنه على اعتباره أيضاً أحد الأولياء كان معارضاً وقت وجود من تعتبر ولايته، وهذا أمر له آثاره الخطيرة التي سينشأ عنها ضحايا لا حصر لهم إن لم يكن المجتمع بأسره، أما مسألة أن في مثل هذه الزيجات ضررا على قريبات المرأة المطلوب فسخ نكاحها لإحجام الأكفاء عن التقدم للزواج بهن، فهو تقديم لدرء مفسدة محتملة في مقابل إيقاع مفسدة متحققة وقائمة، وأي عقل سليم يقول بذلك.

وقد كان الأستاذ المحرق ضيف الحلقة الفاضل قد اعتبر قياس الأستاذ الكريم عبد الرحمن اللاحم محامي الزوجين هذه القضية على قضايا الثأر قياسا مع الفارق على اعتبار أن القضية التي نحن بصددها ليس فيها إراقة دماء كما في قضايا الثأر.

وليسمح لي الأستاذ الفاضل بالاختلاف معه اختلافاً لا يفسد مبدأ الاحترام لكل صاحب رأي يصب في المصلحة، عندما أميل إلى كونه قياساً مطابقاً حتى من جهة تأجيجه للآثار السلبية؛ لأن فتح الباب لأمثال هذه القضايا وإعطاءها السند والدعم الشرعي يوجد مع الأيام حالة اجتماعية ونفسية قد تدفع إلى الجريمة من قتل، أو خطف، وغيره، وهو ما نغفل احتسابه اليوم ثأراً للنفس، والشريك، والأسرة، ومع افتراض عدم وقوع ما قدرناه فإن ثمة جريمة غير مبررة تقع على أطفال وأسرة يحكم عليهم بالضياع، وتعرضهم لنشأة قد لا تكون سوية، المجتمع بأسره هو الضحية الحقيقية لها، وهي تماماً كقضية الإرهاب عندما تساهلنا في بداياتها عن قمع الفكر الأحادي المتبني للعنف الاجتماعي باسم الدين، وصحونا فجأة على فظائع الكل يئن من ويلاتها، ويتجرع مرارتها.

فك الالتباس

بقي بعد هذه المحطات أن أقف عند القضية التي لعلني أزعم أنها القضية الأم في الضبابية التي تعتري كثيراً من القضايا المثيرة للجدل بين شرائح المجتمع المختلفة من مثقفين، ومتخصصين في الشريعة، والاجتماع، بل بين بسطاء الناس، ألا وهي الالتباس في هذه القضايا هل هي شرعية أم عرفية؟ ثمإن ثبت أنها عرفية يأتي خلاف آخر حولها هل القضايا العرفية ضابطة للشرع أم أن الشرع ضابط لها؟

ولعلني من خلال نظرٍ في كتب الفقه ترافقه دراسة لنظرية العرف قد وصلت لسبب هذه الربكة الشرعية الاجتماعية، التي ساندها انحباسها في زوايا باهتة لا يسلط الضوء عليها، وعدم اقتحامها بجرأة كافية قادرة على إزاحة الغمة ووضع الأمور في نصابها، ولعل القارئ الكريم يتسع صدره للنظر فيها متى أجملتها في النقاط التالية:

قبل كل شيء تتفق كلمة الفقهاء على اعتبار العرف دليلاً شرعيًّا، إلا أنه ليس دليلاً لإنشاء الأحكام إذ المنشئ للحكم الشرعي هو الكتاب والسنة، وهذا أمر يتطلب تحديداً لدور العرف بعد أن نعلم عدم اعتباره في تغيير محرم مقطوع بحرمته، أو واجب مقطوع بوجوبه، وإنما دوره يتحدد في أمرين:

أولهما: تفسير وبيان ما أُجمل في الشريعة من أحكام؛ كالاستعانة به في تحديد المهر الواجب لمن أُغفل تسميته لها عند العقد، أو بيان كيفية الاعتداد الواجب على المرأة، أو أسلوب معاملة مشروعة من بيع وشراء وإجارة وغير ذلك مما لا حصر له.

وهذا يوصلنا إلى أن العرف لا يوجب ولا يحرم، وإنما يحدد المراد من الواجب والمحرم الذي أُجمل في الشريعة قصداً دون تفصيل، وتُرك للبيان العرفي ليكون بمثابة الجسر الذي يقرب تطبيقه للناس والتعايش معه، وهو أحد الأمور الجوهرية التي تبرز رونقاً للشريعة رغماً عن كثير من محاولات تطبيقية عمياء عن مثل هذه المقاصد.

ثانياً: يأتي العرف كمرجّح في بعض الأمور الخلافية القائمة عليه، فيكون من حق كل فئة من فئات المجتمع فضلاً عن المجتمعات المختلفة أن ترجح منها ما يتفق مع خلفيتها الثقافية، والاجتماعية دون محاولة تسلط لتقديم عرفٍ على آخر، أو تمكين ثقافةٍ ما من تهميش جميع الثقافات في المسائل التي ترك الشارع الحكيم إخضاعها لنصوص قطعية، وجعلها تدور في قوالب ظنية تحتمل هذا وذاك إلاّ أن هناك شرطاً للعرف الذي يعدّ مرجحاً، وهو أن يتفق عليه أصحاب العقول والطباع السليمة، وهذا قيد له أهميته في إلغاء الأعراف الفاسدة التي لا تتفق مع الطباع السليمة، ولا مع الإنسانية، وعليه لا تتفق مع الشرع حتماً، وأعتبر العرف الذي قامت عليه القضية التي نحن بصددها من هذا النوع.

وما قد لا يلتفت إليه أن الأمر متسامح فيه، وأن هذا النوع من القضايا هو اجتماعي بالدرجة الأولى يخضع للنظر لا للاختلاف، والمشاحة، والعنت، وعبارة النظر تعني تقرير المصلحة وترجيحها، والالتفات إلى المقاصد وتغليبها، والعجب لقضايا أسست لتيسير أسباب الحياة تتحول إلى جذور فرقة، وتناحر، وجدلٍ عقيم، وأحياناً ارتفاع رؤوس فكر أحادي لا يلتفت إلى قواعد مقررة في نظرية العرف منها عدم السماح لعرفٍ بإلغاء عرف، ومنها أيضاً أن الأحكام العرفية قابلة للتجدد بتجدد الأعراف فلا مبرر للتردد أو الحرج من كل ما يجد، بل وضع الأحكام التي تتناسب معه في إطار رؤية واعية مدركة للمقاصد التي عمدت لإيجاد مساحات غير محددة جزماً كان بالإمكان الجزم بها لولا الاعتبار الحكيم لها في مسايرة طبيعة الحياة.

تطبيق حرفي

وفيما أظن تغليباً أن منشأ ما يحدث تنصيص الفقهاء على كثير من الأحكام العرفية في كتبهم على سبيل المثال، وإلاّ لتعارض مع ما قدمت عنهم، فأتى من بعدهم وأراد تطبيقها بحرفيتها دون النظر إلى القواعد التي تحكمها، أدى إلى توارث هذه القضايا على أنها شرعية وهي في حقيقتها عرفية، الفيصل فيها ما يقوله العرف السليم، مع قبولها للتغير بتغير الأزمان والأعراف تمخض عنه ولادة فئات تشددوا في كونها شرعية وضرورة تطبيقها كما وضعت فأخذوا بنا إلى ما نراه اليوم.

وتوصلني هذه الدراسة من ثنايا تلمس المقاصد والرؤية السليمة الصحيحة للقضايا العرفية والشرعية والتمييز بينهما أنه آن الأوان لأن يسند لكل فئة في المجتمع دورها الأجدى والأنفع له في أمثال هذه القضايا، ولا تكون الكلمة حكراً على أهل الشريعة، بل يفسح المجال للفئة صاحبة الخبرة أن تكون أصلاً في تقرير الحكم المبني على المصلحة إلى جانب الشرعيين، فإن كانت طبية كان لأهل الطب كلمة معتبرة، وإن كانت اجتماعية ساند خبراء علماء الاجتماع أهل التخصص الشرعي تجنباً لاحتكار الشرعيين البت في جميع القضايا، حتى تلك التي لا يكونون بالضرورة أهل النظر فيها، كما أعتقد أنه أصبح من الضروري نصب مساندين للقضاة من أصحاب التخصصات المختلفة في هذه القضايا تحديداً لإصدار أحكام لا نندهش بشدة عند وقوعها كما في قضية اليوم السابع!

أفلحوا لو تركوا لها أمرها

تتحدث المرأة السعودية عن حرمانها من قيادة السيارة وكأنها أَلِفت حصولها على جميع حقوقها وعدم حرمانها منها سوى هذا الأمر، طابور من علامات الاستفهام يتقافز من وسائل الإعلام المختلفة ومن العالم أجمع.. ما الذي يحول دون السماح بذلك؟.. فيأتي إيضاح الملك عبد الله بأن الدولة مستعدة لتوفير المناخات اللازمة لأي قضية يوافق عليها المجتمع، لتكثر علامات الاستفهام حول الحائل إذا لم يكن الدين، أو السلطة!!.

مركبة الأحلام

اللافت للنظر إلى درجة العجب وضع المرأة السعودية هذا المطلب في قائمة أولويات مطالبها إلى حد الإيحاء بأن عدم مساواتها بنظيرها السعودي يقع فقط في دائرة الحرمان من قيادة مركبة الأحلام. الأمر لا يستحق هذه الضجة النسائية والإعلامية المبالغ فيها باعتباره أمرًا لا يمنعه الشرع أو السلطة، ما يستحق كل ذلك هو الحائل الحقيقي المتستر خلف جدران النظرة المجتمعية المجحفة بالمرأة.

التكريس النسوي والإعلامي الأوْلى به أن يوجّه للمطالبة ببديهية مساواة المرأة بالرجل على المستوى الإنساني، إلى خلق نظرة منصفة تعترف بها كائنًا إنسانيًا له احتياجات وحقوق كغيره من بني البشر الذكور، هي بحاجة إلى توفيرها، وقبله الإحساس بها كائنا حيا قادرا على القيام بنفسه وعدم التبعية للآخرين غير عاجزٍ، أو مشلولٍ يتوكأ على أكتاف القادرين.

المرأة بحاجة إلى الانفكاك عن النظرة المرتابة في قدرتها على الإجادة دون تدخل الرجل، تلك النظرة التي فُرضت عليها قضاءً وقدرا ولم تُجدِ كل النماذج النسائية السعودية المشرفة المسئولة في أرقى درجاتها في نفيها، هي بحاجة إلى رؤية ترتفع بها عن مجرد النظر إليها كأنثى خلقت فقط إرضاءً للرجل، وإشباعا لحاجاته، الإطار الشرعي يحدّد قوامة الرجل على المرأة في حدود الزوجية، والمستوى الاجتماعي يتعدى الحدود ليعطي كل رجل في المجتمع نفسه حق القوامة على كل امرأة فيه، حتى في أرقى المستويات العلمية تظل المرأة السعودية تابعة لنظيرها المكافئ لها في الدرجة العلمية والمسمى الوظيفي إلى حد الوقوف عاجزة أمام اتخاذ قرار يخص شئونها وشئون من تتولى من بنات جنسها دون المرور بالمرجعية الذكورية.

منطلقات تربوية

في ثنايا حديث تجاذبت أطرافه مع أحد محارمي سألني عن حق المرأة الشرعي في قيادة السيارة، فأجبته بالإيجاب لعدم وجود ما يدل على المنع، ووجود مؤيد من سيرة النساء في عصر الرسالة، وما بعدها اللائي ركبن الدواب، وخرجن لأعمال خارج البيت كمن كانت تجزّ نخلاً لها ترتزق منه؛ فما كان منه إلا أن قال: لو حدث وسمح للنساء بذلك، ووجدت إحداهن في طريقي فسأحطم رقبتها.

من يعتقد أنه كلام شاب طائش، أحمق، لا يتفاهم إلا بمنطق "العضلنة" سيذهل كما فعلت عند علمه أنه شاب متعلم، على درجة من الوعي والذكاء، والسماحة، ودماثة الخلق.

المهم في ذلك أن هذا الحوار لفت نظري إلى ضرورة إعادة صياغة للمجتمع ذكورا، وإناثا من منطلقات تربوية يكون فيها الرجل أقل أنانية، وعنفا، وأكثر إنصافا، وعدلا، وتربى المرأة على أن تكون أكثر ثقة بنفسها، وإيمانا بقدراتها. يتحقق ذلك متى سُمح لها أن تكون مسئولة ذات اختيار تتحمل تبعاته سلبا، وإيجابا دون أن تقوم الدنيا على رأسها وتقعد متى أخطأت في قرار، أو يستدعى تراث ضخم كُرّس ذكوريا كشاهدٍ على عدم غرابة وقوع الخطأ منها؛ إذ لها فيه سوابق لا تحصى ولا تعد.

الخطأ في اتخاذ قرارٍ ما كالإصابة فيه، المرأة ليست بدعا فيه بالاعتبار الإنساني الذي يتساوى فيه الرجل والمرأة، تلحقهما جميعا مسئوليته الدنيوية أمام المجتمع، والأخروية أمام الله عز وجل.

قول الملك عبد الله حفظه الله: الدولة عليها تهيئة المناخات اللازمة للقضايا التي يتفق عليها المجتمع، إشارة مدركة للأسباب الحقيقية كشفت بجلاء عن عدم وجود المانع الشرعي، أو السلطوي، كما أزاحت الستار عن حاجة المجتمع إلى تهيئة تستند إلى مقومات تربوية أخرى للرجل، والمرأة قوامها احترام فِعليٌّ للمرأة يتعدى حدود النظرية غير المجدية.

تجديد الفكر الإسلامي والمعاصرة

لم تكن مفردة التجديد من المفردات المألوف نسبتها إلى العلوم الشرعية والفكر الاسلامي كما هو حال العلوم التطبيقية والأمور الدنيوية.
لذا كان إطلاقها عليه في البدايات صادما ومربكا أنشأ انقساما بين مستميتٍ في نفيها، ومتطرفٍ في تأييدها كعادة كل مستحدث تضرم حوله جذوة الاختلافات، والمتباينات بين اطراف لا يبدو على أحدهم انه يصغي للآخر، أو يعبأ لما يصدر.
إلا أن شدة التغيرات، وكثرتها، فرضت ضرورة قبول دلالة الكلمة مما هو أبعد من الوقوف عند حدود أسوارها، ومع ذلك لم يغفُ الصراع تماما وإنما اكتسى وجها آخر يتناسب مع الخطوة الخجلة لقبولها، فكان الجدل حول ما يمكن أن يخضع للتجديد من مبادئ الشرع وعلومه المحتضنة تحت جناحها (أصول الدين، الفروع الفقهية التي يطلق عليها الجزئيات، أصول تلك الفروع أو ما يسمى بأصول الفقه: تمييزا لها عن أصول الدين).
ويتلبس المترددون في أمر التجديد خشية وحذراً من المساس بجوهر أو ثابت في الشرع من أن يكون عرضة لتلاعب الأهواء المتباينة أو المصالح الشخصية في تبرير واقع أو فرضه باكتساح وتدمير تلك الثوابت .
لذا كانوا أشد ما كانوا اصطداماً بالتجديد في الأصول سواء أصول الدين، أو أصول الفقه وركائزه، وهم يعذرون في حرصهم إلا أنهم عملياً سقطوا في غياهب سحيقة من التناقضات عند إفراد الفروع أو (الجزئيات) بالتجديد مع رفض تجديد ركائزها ومنطلقاتها التي هي قواعد غير منصوص عليها، ولا موحى بها، وإنما هي قوالب تتوافق مع حكم في عصر، ولا تتفق مع آخر في عصر آخر، فهي بمثابة القدم لمن يحرص على اللحاق بغيره.
كما وقع التناقض عند الوقوف على حدود ألفاظ النصوص دون سبر للعلل التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً: وفصل النصوص عن سياقاتها، وجوها العام الذي ينقل إلى آفاق أرحب من النظر والواقعية.
التجديد ضرورة لملاحقة المتغيرات المجتمعية والفكرية غير المحدودة لن يقف أو يتباطأ انتظاراً لأن نسمح بعد عدة مداولات أو لا نسمح، إلا أن ذلك لا ينفي افتقاره إلى نظرة متفهمة مقترنة بإدراكٍ لحقيقة الشرع كمنهج يشمل الثوابت التي بدونها لا يكون هناك فرق بينه، وبين سواه من الأديان والعقائد دون تمييع، كما يشمل المتغير الذي يسعى ليوائم بينه وبين طبيعة الحياة المتغيرة ليتعايش الناس في ظله الرحب في سلام ووئام.
التطرف حول قطبين، والرفض لمجرد النسبة الى مصدر ما هو علة العلل في التخبط، وعدم الاتزان عند الجلوس على مائدة ما، شفاؤه النظرة العقلانية المجردة عن التعلق بالثانويات الحاجبة عن التغلغل بعمق وروية في تناول المهمات.نحن نرفض المنهج العقلي في النظر لمجرد أنه نسب إلى المعتزلة،
ونرفض هذا القول، لأنه صدر عن ذلك العالم الذي له أقوال غير مقبولة في نظرنا في قضايا أخرى لا تعلق لها بما نطرح،
ونرفض ذلك لصدوره عن أديب، أو مفكر يتصف بكذا، وكذا، وكذا.. كل ذلك من وجهة نظرنا.
قبل سنوات ليست ببعيدة ظهرت أدبيات عديدة وبحوث في رفض فكرة التقنين للأحكام القضائية باعتبارها إحدى إفرازات المعاصرة المنبثقة عن احتياجات العصر، حتى أن أحد الباحثين قدم في مطلع طرحه شاهداً على ذمها بأن أول من فكر بها عبدالله بن المقفع عندما أدلى بها إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور.
ولم تمض سنوات طويلة حتى فرض واقع القضاء وتباينه في ما يصدر عنه عن حاجة ماسة ألجأت إلى ما اقترحه منذ سنوات بعيدة ابن المقفع المذموم.
لن تمسي المعاصرة عفريتاً مقلقاً عندما تصلح وسائل الاتصال بين الأقطاب المتحاورة حولها رفضاً، وقبولاً، وترمم الجسور المنهارة ليحمل كل طرف إلى الآخر وسيلة للتقارب ولم الشمل في أمور لا يدرك المتخاصمون أن ما يحمله أحدهم هو سلاح قول الآخر.
سيكون الأمر أكثر واقعية ومرونة عند التنحي عن الاستماتة حول الجزئيات، والنظر في تفعيل الكليات القادرة على إسباغ وشاحها رفرافا على جميع المتنازعين مع روح ملأى بالعدل والإنصاف للغير والنفس عند وقوف أحدهما أمام الآخر.

إلى روح شيخي

توفي الشيخ الجليل إذاً؟
شعرت بها الآن وكأنما أصحو من صدمة اللا استيعاب لأدرك أن والدي وشيخي محمد أبو الأجفان قد انتقل إلى جوار ربه. كان واجب الوفاء لهذا الرمز العظيم يملي كتابة هذه الأسطر عقب وفاته رحمه الله، غير أن قلمي استعصى حائراً ماذا يخط وماذا يدع، وخشيت لشدة التصاق تلك الذكريات بنفسي أن أبدو عند حديثي عن شيخي أني أتحدث عن نفسي. وأنا هنا لن أعرض لسيرة الشيخ الفاضل رحمه الله ولمسيرته العلمية تدريساً، وتصنيفاً، وتحقيقاً فهو أشهر من نارٍ على علم، وإنما ألح فكري أن يسرح في فضاء الذكريات العبقة هناك في تلك الزاوية الصغيرة التي كانت تضمني ورفيقات الدراسات العليا حيث كنا نصغي ونتحاور مع ذلك العالم الجليل نتقلب بين علومٍ ومناحٍ شتى تضم الفقه، والأصول، والفلفسة، والتاريخ -تاريخ المغرب خاصة وجغرافيته التي رغماً عنا أحببناها وهمنا في أرجائها-، وعلم النفس، والتربية، وعلم الاجتماع، وواقع الحياة.
في اليوم المقرر لمحاضرته كانت الروح تسبق الخطى حرصاً على الوصول إلى تلك الحجرة قبله كي لا يفوتني شيء من عذوبة طرحه وتوجيهه، وتمضي الساعتان في سرعة عاكسة نظرية اعتياد الطلبة النظر إلى الساعة انتظاراً لانتهاء الوقت، فانظر إليها عاتبة تعجلها حرماننا ذلك المعين.
لا أعرف كيف كان يفعل ذلك؟ يعلم، ويربي، ويوجه، بأسلوبٍ سلسٍ لا يشعرك معه أنه يفعل، إلا أنك عند النظر إلى مرآة نفسك يخطفك طيفاً براقاً تكتشف أنه أضيف إليها.
كان يولّد إبداعات الروح بطريقة لا يمكن تصديقها يشعرك بأنك شيء عظيم، وأن ما تقوله ليس هملاً، ويستحث ويحفز أعماقك لمواصلة البحث والتحقيق والأمانة في التلقي بعيداً عن عبارات التكليف والفرض.
كان حريصاً دائماً على التقيد في النطق بالفصحى حتى في الكلام الجانبي الذي يخرج عن إطار الموضوع الرئيسي، فإذا أخطأت إحدانا قال عبارته الشهيرة: أعيدي ما قلت بالعربية.
كنا نضحك فيما بيننا همساً متى وقع الخطأ من المتحدثة انتظاراً لتلك العبارة، فننظر في عيني من قيلت لها فإذا بها تكاد تبكي ومع ذلك لم يكن أسلوبه محبطاً وإنما كان محفزاً لاقتناء العديد من كتب اللغة التي حسنت أداءنا نطقاً وكتابة.
لا أنسى ذلك اليوم الذي لجأت فيه إليه حائرة في معرفة أحد أعلام المذهب المالكي الذي كان رائداً فيه، فبدا لي كأنه لا يعرفه، وأخذ يقول لعله، ولعله، ولعله، فاضطررت إلى تعقب كتبٍ كثيرة إلى أن اهتديت إليه، وعند إخباره ـ بما بدا لي إنجازاً عظيما ًـ إذا به يفاجئني بسيل متدفق من معلومات لم أصل إليها حول تلك الشخصية، تلقنت يومها منهجاً خفياً في دفع المتلقي للوصول بنفسه إلى ما يبحث عنه إثراءً له خلال رحـلة البحث.
ولا أنسى عندما فُتح يوماً الحوار حول تربية الأطفال فإذا به يسألني عن منهج تعاملي مع ابني وابنتي، فقلت: إني أساوي بينهما تماماً حتى عند احتياج أحدهما لشيء أحضر للآخر في مقابله شيئاً، ولا أشعر ولدي بميزة تميزه عن أخته وإنما هما سواء، وأحرص على غرس قوة الشخصية في ابنتي والثقة بنفسها، فأدهشني عندما قال بعد إنصاته التام لما أقول: تذكري أنك تربينها للمجتمع لا لنفسك، فكأنه أزاح عصابةً عن عيني عندما لفت نظري لحقيقة لم أكن أنتبه إليها.
مع شيخي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه قضينا ساعاتٍ وأياماً نتعلم كيف يمكن أن يجمع العدل، والحزم، والرفق، والعلم، والسمو، وسعة الصدر، والرقي، والفضل في إهابٍ واحدٍ.
عندما تستمع إليه ناثراً عقده المنتظم حول المذهب المالكي فقهاً وتصنيفاً يتراءى لك يشدو ويرفرف كفراشة تحلق في فضاء فسيح متقلبة من رحيق إلى آخر، ولا أعرف كيف تسللت تلك الروح المالكية لتسكن مكتبتي الخاصة التي لم تكن قبله تضم إلا القليل من كتبهم فأمست زاخرة بالكثير منها.
عندما هاتفت زوجته أم رافع أتقدم إليها بواجب العزاء أخذت تعزيني هي الأخرى فتبادلنا العزاء كأسرةٍ واحدة، كنت أقول في نفسي حينها: ليس نحن فقط من يُعزى فيه بل كل باحثٍ حرم بفقده أن يتربى على يديه.

حمامة بيضاء في سماءٍ داكنة

استجمعت قواي، انتشلت نفسي عنوةً من قبضة الفقه بأحكامه التكليفية والوضعية وقذفت بها في كوثر المصطفى صلى الله عليه وسلم أروي ظمأ روحٍ استبد بها الشوق إلى ركنٍ آمنٍ تريح عليه رأساً مرهقاً .

على عتبات الحبيب وقفت أعبُّ سيرةً ضمخها التاريخ بعينٍ تلتقط سياقاً فذاً ، وبفكرٍ جمح في سماء إنسانيةٍ واقعية يمتزج في ردهاتها أنموذج نبيٍ حاكمٍ قاضٍ برقة زوجٍ وأبٍ وصديق .

سبحت في زُكاء لجته أتلمس الشذا وأنّى تلمست أدركني الكمال عند كل باب ، إحساسه، تفهمه، إمهاله، اعذاره، خوفه علينا، حبه لنا .

أمام جلال تاريخٍ ينساب بنسائم الرحمات أنخت هامتي أسكب عبرتي، بين راحتيه إحساس شرس بالذنب لفني، بونٌ رحب بين المنبع والمصب، بين الثريا والثرى، بين شموخ الشواهق وذل السفوح .

في محراب نور أسطرٍ حبلى بلآليء العظمة، وفي لحظة استجلاءٍ لواقعٍ يغرق في تيه الغياهب أحاطني دخان شجنٍ أسود على واقعٍ لوثته بصماتنا، وعاث بصفحة صفائه عبثنا الذي كان وراء ما أحيطت به صورة الحبيب صلى الله عليه وسلم من تمثيلٍ على أيدٍ عرفتنا ولم تعرفه، رصدتنا تحت مجاهر صارمة في حين أنها لم تخبره، فحمّلته ظلماً خطيئة ظلامنا ليتلقى نحره الطاهر طعناتها دون نحورنا .

خلال نزهتي النورانية كانت تحفني مواكب الهيبة لتحط في حضرة سياقٍ خصيب يعزز شعور عار الخذلان والخيانة لعدم أمانتنا في حمله ونثره صافياً كما كان في منابعه ليحتضن بروابيه أرجاء الكون الفسيح .

هناك وددت إطلاق حمامةٍ بيضاء يتقاطر ندى براءة أجنحتها فيطهر بيدٍ عذراء أديماً طالما أمعنا في تلويثه بكل الأطياف الداكنة .

وددت لو ملكت تسخير بحار الأرض ومحيطاتها وتذويب ثلوج أقطابها فأبعثه فيضاناً يثور ليغسل أقصى ذرةٍ سوداء تحت جلودنا وفي أعماق قلوبنا .

وددت، ووددت، ووددت، وفي زخم ما وددت لم أرَ في قطيعةٍ لبضائع القوم غسلاً لعارنا، بل رأيت الأولى مقاطعة تصدير صورةٍ مظلمة وحالٍ بئيس إلى شعوبٍ لا تبصر منهجاً وقيماً قدر ما ترصد سلوكاً وفعلاً .

عند قداسة العتبات أخِرُّ على ركبتيّ، أعفرُّ وجهاً، أذوب عبرةً، أعتذر إلى صاحب المقام إذا لم يفت أوان الاعتذار .

ميراث المرأة بين الشرع والمجتمع والقضاء

قضايا المرأة عقدٌ منتظم إثارة أحدها ينثر جميعها على طاولة النقاش، فعندما تطرح قضية حرمان المرأة ما قرره الشرع لها من الميراث أو استلاب بعضه يجر ذلك إلى تأمل جميع قضاياها لسبر الأسباب التي تجعل من حقوق المرأة قضية يثور حولها اللغط والجدال.
لا يملك أحد أن ينكر ما قرره الشرع للمرأة من حق في مال من يتوفى من أقربائها ذكوراً وإناثاً حسب قواعد نظام التوريث الإسلامي.
كما لا يملك أن ينكر الكثير من الحقوق التي أجراها الشرع لها من نفقة، ومهر، وذمة مالية مستقلة، ومعاشرة بالمعروف ......
نظرياً لا توجد مشكلة، تكمن المشكلة في الواقع الاجتماعي الذي يستقر في حسه فصل بين النظرية والتطبيق، وتقف في كواليسه كثير من العادات والتقاليد الموروثة وأحياناً الأهواء التي تتشبث بالشرع عندما يكون في صفها ولا تأبه له عندما يسير في غير ما تشتهي، وبين هذا وذاك تميع الحقوق، وتتفرق الطرق.
كثير من الأصوات التي بُحت وهي تطالب بحقوق المرأة تلقي بالتبعة على شماعة الشرع دون أن تلتفت إلى سلسلة القضايا التي قلب المجتمع حالها، وتقرر تلك الأصوات الحل في إلزام الشرع بمسايرة تلك الأوضاع المقلوبة بدعوى ضرورة تطوير المفاهيم الفقهية وفق المفاهيم العصرية القائمة ولا يدرون أنهم يزيدون قضايا المرأة تعقيداً ويعسرون أمامها سبل الوصول إلى حلٍ يحل عقدها.
فمثلاً يُركز في مسائل توريث المرأة على كونها ترث نصف الذكر، ويعتبر الكثير في ذلك إجحاف بالمرأة وانتقاص لها، ويرون الحق في مساواتها بالرجل سيما وأن الواقع القائم يلقي بكثيرٍ من التبعات المالية على المرأة.
وفي الطرف الآخر هناك من يرى في هذا التوجه ظلم للشرع الذي بنى قواعده على مراعاة حجم المسئوليات المالية والتي يتحمل منها الرجل أضعاف ما تتحمله المرأة.
ولا تقنع هذه العلل المطالبين بالمساواة الذين يشهدون في الواقع القائم كثرة التبعات الملقاة على كاهل المرأة حتى غدا الرجل في غالب الأحوال ضيف شرف على أسرة مؤسسة نسوياً من ألفها إلى يائها.
وهؤلاء رغم نظرتهم الواقعية إلاّ أنهم بنوها على الوضع المعوج والمقلوب للأحكام الشرعية في السلوك الاجتماعي وهنا تستقر المعضلة في جميع قضايا المرأة التي يكاد يستعصي حلها.
لأننا حينما نجري للمرأة نصف ميراث قريبها الذكر المساوي في درجة قربها من الميت كما هو الشرع، يتحتم أيضاً أن نتمسك بالعلة التي من أجلها تقرر ذلك النظام فنطالب الرجل بالإنفاق على زوجته وأولاده النفقة اللائقة، ليس ذلك فحسب بل والإنفاق على من احتاجت من قريباته اللاتي يلزمه الشرع بالإنفاق عليهن، ولا يقف الأمر عند ذلك بل يتحتم أيضاً تقرير الضمانات الفعلية والعملية لإجراء تلك الحقوق(المنسية) وتيسير أسبابها عند المطالبة.
سيظل شعور المرأة بالظلم قائماً إذا كان واقعها لا يفتأ يذكرها به، وطالما ظلت ترى الواجبات تتقلص في حق الرجل لتلقى في كفة ميزانها.
دائماً هناك تفرقة اجتماعية ما أنزل الله بها من سلطان بين مواقف المرأة والرجل، ففي حين يشنّع المجتمع مطالبة المرأة بحقوقها، ويجرّم لجوؤها إلى القضاء، يتسامح تجاه ذات الموقف من الرجل فلا يرى بأساً في مطالبته حتى لو استعدى بالقضاء،أو أوقف جيشاً من الشرطة على باب المرأة وذويها.
وإذا لجأت المرأة للقضاء فإن نظرة القضاة إليها تقف حجر عثرة أمام قدرتها على إيضاح أبعاد قضيتها، إذ أن كثيراً منهم يبدي تبرماً تجاه كلام المرأة أمامه ،وبعضهم يطالبها بإحضار المدعى عليه بنفسها مما يجعل الكثيرات يترددن في اللجوء إلى القضاء تجنباً لما قد تلقاه من عناء نفسي واجتماعي، وقد تلجأ إلى المحامين الذين إذا اثبتوا لها شيئاً بعد سنين طويلة لم يبقوا منه شيئاً مقابل الأتعاب الباهظة.
وهكذا ترجع تعقيدات قضايا المرأة إلى سببين رئيسيين(قوانين المجتمع، والقضاء)
أما قوانين المجتمع المجحفة يتطلب تحطيمها تكثيف الوعي والتذكير الدائم بحقوق النساء، وتشنيع الاعتداء عليها، وتجريم فاعل ذلك، والتذكير بالوعيد الذي يلحق مستلبها والمقصّر فيها عن طريق التربية، والمقررات الدراسية، وخطب المساجد، وجميع وسائل الإعلام.
وأما القضاء فعليه أن ييسر السبل أمام النساء اللاتي أُُجبرن على اللجوء إليه، وأن يقرر من الإجراءات الفعلية ما يضمن وصولهنّ إلى حقوقهن وتيسير ذلك مع تذكير ذويهنّ بما أوجبه الله عليهم تجاههنّ من واجب الحفظ والإعالة.

قيثارة الإحباط والتأبين

قيثارة دروس العلم الشرعي لطالما دندنت على جلودنا الغضة المفعمة بالحياة وإرادة الشباب ونحن على مقاعد الدراسة _ ولا زالت تدندن _ سيمفونية العجز والإحباط عن إدراك فضائل اسلافنا وماوصلوا إليه في مناحي العلم والفكر .
لا أعرف كيف ساغ لعقولنا الفتية الاستسلام لمراسم التأبين والدفن وقبول العزاء .
كلما منحتني الحياة رشحاً من بصيرتها تجلى في وعيّ عدم انحصار ذلك في الثقافة الشرعية بقدر ما هو ثقافة عامة متجذرة في عروبتنا .
فإذا كانت ثقافة العلوم الشرعية والفلسفية قد أوصدت الأبواب أمام الأحلام الطامحة في تبوؤ مكانة أحد الأئمة الأربعة، أو الغزالي، أو الرازي، أو القرافي، أو الجويني، أو ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أو معاصره السبكي، أو ابن رشد، أو ابن سينا، أو ، أو ، أو ، إلى آخر الأوات المحبطَة.
فإن الشعر قد استأصل رحمه بعد المتنبي، و أبي تمام، و الأصمعي، وجرير، والفرزدق.
وكذلك فعل الفن بعد زرياب، والاصفهاني، وسيد درويش، وورشة أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز .
لا أنكر في صومعة العلماء أن عصرنا لم يأتِ بأمثالهم ، إلاّ أن ما أنكره نسبة ذلك إلى القصور والعجز بقدر ما هو نتيجة لازمة لثقافة التقزيم والإحباط والوأد .
البداهة تهدي إلى أن الحكمة الإلهية تتنافى مع تصور أن يخلق الله عزّ وجلّ جيلاً بعقولٍ تامة ثم يتناقص التمام مع توالي الأجيال .
كما أنها تهدي إلى أن الطاقات البشرية بكافة أنواعها موجودة في جميع الخلق ولا يظهرها إلاّ التحفيز والتوظيف ، والسؤال : كيف يمكن أن تتأجج في نشء نلقي في سبيله قشور البطيخ والموز .
تبجيل رموز الأمة لا يقف بالضرورة عائقاً أمام الوعي والإرادة في تلقي روح هذا الدين وتوظيف ذلك الوعي في تلوين صفحة الواقع والوقت القائم بألوان الربيع المتخمة بالحياة والأمل في انسيابية متناهية البساطة .
كما لا ينبغي أن تصور المخالفة للسلف من العلماء أو الخروج على تأصيلهم على أنه جريمة يعاقب مرتكبها بالتهميش والإقصاء وحشو الآذان أمام علمه وفكره المتجدد ، أو يصور على أنه تطاول وتحدّ وتجاوز لسياق الأدب معهم خاصة بعد علمنا أن أهم أسباب تفوق من تفوق منهم وريادته إنما هو تطويع ما تلقاه هو أيضاً عن أسلافه ليتناغم مع حاجات عصره .
دورنا القادم هو إطلاق منافذ الوعي والحرية الفكرية المسؤولة في جماجمنا بعيداً عن ثقافة الحجب والتكميم .
ولعلني قبل أن أختم أذكر ما دعاني اليوم بإلحاح إلى تسطير ما كتبت رغم أنه عاش في داخلي طويلاً؛ ذلك أن أحد محرري الصحف المحلية عرض عليّ الكتابة في زاوية بعنوان " لا حياء في الدين " وأردف قائلاً : الأولى أن تسمى " لا حياة في الدين " وأنا أوافقه الرأي مع إضافة بسيطة " لا حياة في الدين كما يصوره الجناة عليه " وإلاّ فالدين هو الحياة التي لم نذق صفو طعمها ولن نذقه إلاّ إذا أقصينا بعض مفاهيمنا وكثيراً من تحجرنا .