الجمعة، 31 ديسمبر 2010

الوعظ حين ينفلت من عقال الضوابط

أشد ما يؤذي أن تستمع إلى وعظٍ منفلت من عقال الضوابط والتفهم والعقل, طائفة تدعي الوعظ ولا دخل لها بالفتيا أو الأحكام, وبقليلٍ من التأمل والعمق في عملهم يتجلى تسلل كثير من الأحكام والفتاوى من ثنايا ما يدعونه وعظاً بريئاً, وليتهم يقفون عند تلك الحدود بل يتخطونها ليضعوا أمام الناس منهجاً يسير حياتهم قسراً.

والخطير في عملهم أنهم ليسوا مؤهلين للتصدي, أو التصدر لإطلاق أحكام, أو تقديم منهجٍ في الدين, أو الحياة لا علماً, ولا عملاً.

لا إحاطة لديهم أو إدراكاً لأبسط قواعد وأصول الفقه والوعظ التي تخط التوازن الفعلي بين الشريعة والحياة ليعكس هذا التوازن حقيقة الشريعة كما أرادها الله منهج حياة يتواءم مع متغيرات الحياة الطبيعية, يسحقون بأقدام ألفاظهم المطلقة التي لا تعرف حدوداً, ولا تعترف بضوابط أهم ما يميز الشريعة (المرونة, والسماحة).

المرونة التي تقتضي النظر في أحوال الناس, وما يطرأ على حياتهم من متغيرات اضطرارية هي أصل في طبيعة الحياة البشرية.

والسماحة التي تعني فهماً, بل تفهماً للاحتياجات المتجددة درءاً للمهاجمة, أو المقاومة غير المتبصرة.

ولا أقصد بالمؤهلين المتخصصين في الفقه وأصوله, إذ منهم رغم تخصصه من لا يقل جهلاً, أو جموداً عن تلك الفئة, إنما أردت من تشبعت روحه بإدراك المقاصد, والقواعد الكلية التي هي مبنى الأحكام.

مجتمعنا اعتاد التساهل في جانب الوعظ من قبل الطرفين: الواعظ, والمتلقي حين لا يهتم الواعظ بالغور في أعماق ما يأسر به عواطف وعقول سامعيه دون تمييز بين أمور اجتهادية ظنية هي في أصلها خيارات متعددة غير قابلة للإنكار, وليست مجالاً لأمرٍ بمعروف, أو نهي عن منكر, وبين أمور قطعية لا يصح مخالفتها ليتحول الجميع إلى قطعي لا يقبل (من جانبهم) أدنى مناقشة, أو محاولة فهم.

والأخطر إيمان العامة المطلق بصواب ما يصدر عنهم, وقبوله على علاته إيماناً تعجز أمامه محاولات الإقناع بأن ما قدمه الواعظ في قالب الوجوب والإلزام يمكن العمل بخلافه, لاندراجه في الأمور الخلافية, لا القطعية.

فضلاً عما يحمله هذا النوع من الوعظ من أمور مغلوطة توجه فكر الناس أيضاً في قالبٍ لا يقبل النقاش, والحوار
كم هي خطيرة هذه الفئة, ولعلي لا أكون متجنية أو متجاوزة لحدود العدل, والإنصاف متى ادعيت جازمة أن جل مشاكلنا الدينية, والاجتماعية, والنفسية التي تعلق على شماعة الشريعة ظلماً منبعها عمل هذه الفئة.

وأصرّ على قولي (الاجتماعية, والنفسية), إذ لا يستقيم عمل الفقيه دون النظر في حياة الناس الاجتماعية, واجتهاده لتقديم أحكام لا تقف أمام الاحتياجات الاجتماعية, والنفسية في البيئة التي تطلق فيها تلك الأحكام, بل تراعيها, وتقدرها تقدير الشريعة في ذاتها لها, والناظر في أبعاد الشريعة الإسلامية نظرة صافية من عمل هذه الفئة لا يملك إلا أن يعترف بذلك .
لا يمكن أن أنسى ذلك الموقف عندما كنت رائدة للجنة التوعية الإسلامية في كلية الآداب, كان ذلك في الاجتماع الختامي لأعمال اللجنة, كان يضم جميع الرائدات لجميع الكليات لتقديم رؤية مفترضة لنشاط العام القادم, وكان من بين ما طرحته عناوين لبعض المحاضرات الفقهية التي تعكس اهتمام الشريعة بالنواحي الاجتماعية, والنفسية, عندها نظرت إلى رائدة كلية الاقتصاد والإدارة في دهشة لتقول لي وهي التي أمضيت معها, ومع رائدات الكليات الأخرى سنة كاملة تجمعنا الأنشطة المختلفة, قالت لي (غريب أنت من قسم الدراسات كنت أظنك من علم الاجتماع!!)

اندهشت لدهشتها, وتأكد لي رسوخ ذلك المفهوم لدى الناس, واعتقادهم أن الفقيه لا دخل له بالقضايا الاجتماعية, أو النفسية, وأقصد بـ(لا دخل له) أنه لا يراعيها, ولا يلتفت إليها بل جل همه إصدار أحكام لا تسع الناس, والحياة, وهذا ظلم للشريعة, ومن يملك فهماً عميقاً لها ولأننا قوم عاطفيون لا تجد لدينا كبير صبر لسماع من يتكلم في الشريعة بمنطق العقل, والفكر, وعلى ذلك اعتاد الناس.

إلا أني لا أريد أن أظلم الناس بإلقاء التبعة عليهم كاملة, إذ التبعة تقع علينا نحن الدارسين لهذا العلم (أوفئة منّا) حين ندعي أننا نتمثل منهجاً يعكس روح الشريعة وغنائها, بينما كثير منّا يعكس رؤى خاصة, ويستبد بأفكار ذاتية ساقت إلى اعتياد الناس عدم قبول الأمور الشرعية للفكر, أو الحوار, أو النقاش, واعتيادهم أيضاً أن هناك فئة من الناس إذا قالوا هذا يفعل, وذاك لا, يضرب بقول غيره عرض الحائط, وقد يكون قولهم صواباً إلا أنه ليس الصواب المطلق في الأمور الخلافية التي لا تقبل الاستبداد بخيارٍ واحد وإنكار ما عداه, فضلاً عن محاربة قائليه, إذ ان من اختار أحدها كان من العدل, والإنصاف أن يترك لغيره نفس الحق في الاختيار.

كثير منّا عمّق في أفهام العامة أن الوعظ لا يحتاج إلى فقه, إنه فقط تصفية النفس, وتزكيتها والسمو بها, وهذا مفهوم خطير, واؤكد على كلمة خطير, لأن الوعظ لا ينفك عن الفقه حتى حين الكلام عن تصفية النفس وتزكيتها للتفريق بين مراتب العدل, والفضل, ومتى انفك عنه أدى إلى التخبط, والاضطراب بالنفس, وبحياة الآخرين.

الفقه ميزان الوعظ, والفتيا وعقالهما الذي يمنعهما من الجموح والتضييق وتحجير ما وسعته الشريعة بما تقدمه من خيارات متعددة متمثلة في الأقوال المختلفة.

ولا تضارب, ولا تضاد, لأن الشريعة تمنح كامل الحرية في انتقاء أحد هذه الخيارات (الأقوال), والعمل به تترافق مع هذه الحرية قاعدة جليلة متفق عليها بأن هذه الأمور (أقصد بها الخلافية) ليست مجالاً لأمرٍ, أو نهي.

كما أني لا أكون متعسفة متى زعمت بأن هذا النوع من الوعظ الذي يعد في مجتمعنا الأساس لعمل الناس الديني بصورته المنفلتة عن عقال القواعد, والأسس المنهجية الهادئة, المتروية التي يقدمها الفقه هو السبب في كل الويلات الاجتماعية التي بلينا بها من إرهابٍ, وتعادٍ, وتعدٍ.

هو عامل فعّال في الاضطراب الديني الذي يلمسه المجتمع (ولا ألومه في ذلك), لأنه يظهر الشريعة لا كما هي حقيقتها منهج حياة يحمل في طياته المرونة, والسماحة, بل فرض متعسفٍ لرؤية غير قابلة للنقاش, تشعر أفراد المجتمع وكأنما يحيون في زمن غير زمنهم, ويلبسون ثوباً ضاق عنهم حتى يكاد يذهب بأنفاسهم. لذا احتاج الأمر منّا (ومنّا نحن) إلى هذه الشفافية في طرح الموضوع كي ننبه على خطورته, وننبه العامة الى أننا نعرف بالحق لا العكس.

الخميس، 2 ديسمبر 2010

رسالة امرأة إلى وزارة العدل

يدخل الرجل إلى عقد الزواج ثابت الخطى مطمئن النفس إلى ضمانات لم تمنحه إياها الشريعة الإسلامية بقدر ما منحته إياها اختيارات معينة ضمن مجموعة خيارات متاحة انتقتها من بينها وزارة العدل .
وفي المقابل تدخل المرأة هذا العقد قلقة، مرتبكة لانعدام ضمانات تحقق أمانها واستقرارها النفسي .
ولعلني أورد في نقاط محددة الإجراءات المبنية على الخيارات الإنتقائية لوزارة العدل و التي يمكن استبدالها بخيارات أخرى تتيحها الشريعة تضمن استقرار جميع أفراد الأسرة ( الزوج، الزوجة، الأبناء )، و أمان المرأة بشكل عام .
1- تعمل المحاكم في الخلع بقول الحنابلة القاضي بدفع المرأة المهر للرجل مقابل الفراق حتى لو كان مضراً بها ويسيء عشرتها .
مع أن هناك قولاً للمالكية يقصد إلى رفع الضرر عن المرأة في هذه الحالة ، يجبر به الزوج على تطليقها متى ثبت ذلك للقاضي بسؤال الجيران و الأقارب .
وبالتأكيد هذا لن يفعِّله إلاّ وجود لجنة اجتماعية استشارية تستطيع أن تقف على صدق دعوى المرأة ، ومتى ما ثبتت فرّق القاضي على الزوج دون عوض أو مقابل .
وهذا الخيار المالكي رغم عدم العمل به في محاكمنا إلاّ أنه أقرب إلى النص
الشرعي في حديث ثابت بن قيس عندما قالت زوجته ( ما أعيب عليه من خلق
ولا دين ) ، وفي رواية : ( ما أعتب عليه في خلق ولا دين ) ، ومع ذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقبل الحديقة و طلقها تطليقة ) .
فهو لما كان غير مضرٍ بالمرأة ، كان العدل معه أن تؤدي له المهر الذي يعوضه
بزوجةٍ أخرى .
ومن العدل أيضاً أنه متى كان ظالماً لها ألاّ نعينه على الظلم باستلاب عمر المرأة
ومالها أيضاً ، وقد تكون لا تملك ما تفتدي به نفسها من ظلمه .
2- تعمل المحاكم السعودية بقول الحنابلة في الحضانة القاضي بتخيير الولد بين أبويه، و إجبار البنت في اللحاق بأبيها .
مع وجود قول الشافعية القاضي بتخيير الاثنين، وهو أكثر اتساقاً مع النص الشرعي، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم خيرّ غلاماً بين أبويه، و الحادثة جاءت اتفاقاً في صبي، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأحقية الصبي بذلك دون الفتاة ، مما يجعل قول الحنابلة من أضعف الأقوال الفقهية في المسألة .
وقد كنت كتبت مقالاً مفرداً في مراجعة هذا التطبيق القضائي في المحاكم السعودية بعنوان: ( الحضانة في التطبيق القضائي دعوة إلى المراجعة ).
وهذه القضية تحديداً ترتب عليها بالتطبيق القائم محاذير كثيرة و أضرار جسيمة ربما تلتفت إليها وزارة العدل :
أ‌- كثير من الفتيات سلمن لآباء عنيفين ظالمين بمقتضى هذا الخيار، مما كان سبباً في قتل بعضهن، و اعتداء الجسدي البليغ بالبعض الآخر، وحرمان بعضهن من التعليم وغير ذلك ، وقد كثر ورود أخبار كثيرة من هذا القبيل في الصحف السعودية مؤخراً .
وقد ناديت في مقالي حول التطبيق القضائي القائم بضرورة إلحاق لجان اجتماعية ونفسية استشارية بالمحاكم تساند القضاة في النظر و البحث عن البيئة الأفضل لتربية الأبناء في قضايا الحضانة، والتي لا يشترط أن تكون بيئة الأم، كما لا يشترط أن تكون بيئة الأب حتى في حال تزوج الأم، يظل الهدف هو وضع الطفل في المكان المأمون، على اعتبار أن هدف الحضانة
هو التربية والعمل على ما فيه صلاح المحضون .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي الذي يوجهه إلى الصالح من الأحكام باعتبار النبوة ، والقضاة ليسوا أنبياء؛ لذا كانت حاجتهم شديدة للجان معينة لهم للقيام بواجبهم تجاه الصالح ، حتى لو كان ذلك الصالح بتجاوز وضع الطفل عند أحد الأبوين إذا كان كلاهما غير أهل لذلك ، ووضعه لدى جد، أو جدة، أو قريب أكثر أماناً عليه يستطيع النهوض بهذه المهمة .
ب‌- ربما كان هذا التطبيق يمثل اكبر مصدر قلق بالنسبة للمرأة لأنه يعطل حياتها التي تقدم إيقافها على أبنائها مخافة أن ينتزعوا منها متى تزوجت إلى أب تخشى منه عليهم ، ما يفتح باباً لفتنة كبيرة في الأرض وفسادٍ عريض .
وبذلك تشعر المرأة في عقد الزواج لعنة تمكن الرجل عند الفراق من الاستمرار في حياته بتكوين أسرة جديدة، خاصة في ظل تربية خاصة في السعودية مبنية على ترفيه الذكور دون الإناث، بينما المرأة تقف حمايتها لأبنائها عائقاً أمام ممارسة حقها في الحياة كإنسان .
وهذا يؤكد ضرورة وجود مثل تلك اللجان، ووضع آلية إجرائية لحماية حق المرأة المطلقة في الحياة .
3- يستطيع الرجل أن يتخلص من المرأة متى أحس أنها مصدر أذى له، وحتى لو لم تكن كذلك لمجرد رغبته في ذلك بمنتهى البساطة .
بينما يعسر الأمر أمام المرأة، وتطول الفترة إلى ما لا يقل عن سنة، أو ثمانية أشهر، مع أن المرأة عندما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكية لم يأخذ الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من التفاتة إلى زوجها و أمره بتطليقها .
وبما أن القضاة لدينا ليسوا أنبياء فإن الأمر سيطول قليلاً للبحث و النظر، ولكن في كل الأحوال لا يستحق أن يتجاوز الشهر إلى الشهرين بالكثير .
وليت أن الوزارة تصدر تأقيتاً للقضايا افتراضياً مبني على أقصى فترة يمكن أن تحتملها بناءً على نوعها، خاصة تلك التي يتوقف عليها حياة جماعة و أفراد كالخلع، و الحضانة، و النفقة، وتوزيع الميراث، وما يشبهها من قضايا يحصل بتطويلها ضياعاً للبشر .
4- تعمل المحاكم السعودية بقول الحنابلة في ترتيب الأولياء، والإصرار على أن تقوم المرأة بإحضار أوليائها حتى لو كانوا عاضلين، دون تفعيل حقيقي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( السلطان ولي من لا ولي له ) .
و أحياناً يكون هناك إصرار على تقديم الإخوة على الابن في الولاية على الثيب ، ويكون الابن أكثر تعاطفاً مع الأم في حين يمنعها الإخوة الذين من الأصل لا يمثلون سنداً لها في الحياة .
فإذا كان كذلك يمكن تقديم الابن على الإخوة بناء على قول المالكية، وحين يكون الابن عاضلاً يقدم الإخوة ، وحين يعضل الجميع يفعّل دور القاضي في العقد للمرأة؛ فتحاً لباب الحلال، وحماية للنساء من الوقوع في الحرام .
وقد دفعني إلى قول ذلك حادثة حدثت أمامي في المحكمة ، حيث جاءت إحدى النساء بابنها البالغ من العمر 18 سنة ليكون وليها في عقدها لأن إخوتها لا يدرون عنها ولا ينفقون عليها، وهي امرأة لا تعمل وقد تقدم لها من هو مستعد للإنفاق عليها و إعالة أبنائها .
وقد هالني خروجها تصرخ بكل صوتها تقول: جئت طالبة للحلال،ولم تتركوا لي طريقاً غير الحرام .
لا أستطيع نسيان صوتها، وغضبها رغم مرور ست سنوات على ذلك.
ليت وزارة العدل تقف موقفاً حازماً من الولاة الواقفين حجر عثرة أمام تزويج النساء، و أن تحقق تسامحاً في قضايا الكفاءة؛ حيث أن الزواج بغير الكفؤ نسباً دام أنه صاحب دين وخلق وتعليم، خيرٌ من الوقوع في الحرام، ولا يعد عدم تحققها مادام قد تم العقد برضا المرأة ووليها المباشر للعقد سبباً لشتات عائلة لمجرد أن هناك من لا يريد ذلك .
5- وضع قانون إجرائي يعاقب على تزويج القاصرات لحمايتهن من العنف و الاعتداء الجسدي، والنفسي .
6- عندما تلجأ المرأة إلى القضاء لأي أمر يطلب منها معرف، بينما لا يطلب ذلك من الرجل مع أن كلاهما يحمل بطاقة تعريفية، مما يعطل شؤون المرأة ومصالحها ،وربما أوقع بها ضرراً، كضرورة إيقاف عمل وكيل، وهي لا تجد من هو متفرغ للذهاب معها للمحكمة لتعريفها مما يجعل وكيلها يستمر في التصرف لها بما يضرها ولا تملك إيقافه .
و إذا كان الدافع لطلب المعرِّف هو غطاء المرأة لوجهها فإنه من المعلوم أن
الشريعة تجيز للقاضي النظر إلى وجه المرأة متى دعت الحاجة، وهذا معروف
حتى في المذهب الحنبلي .
هذه رسائلي إلى وزارة العدل مبنية على خيارات شرعية قد تكون سبباً في رفع
الكثير من معاناة المرأة السعودية .