الجمعة، 12 نوفمبر 2010

الأبعاد النفسية والاجتماعية في الأحكام الشرعية( الولاية على البكر البالغة العاقلة أنموذجاً )

قد يختلف المسلمون في تفاصيل كثيرٍ من الأمور الشرعية، وهو خلاف مساغ فرضته طبيعة التعامل مع النصوص و احتمالاتها المختلفة .
لكن الأمة لا تختلف على أن الله عزّ و جلّ أراد لهذه الشريعة العظيمة أن تكون منظماً لحياة الإنسان تهدف إلى سعادته ورفع الحرج عنه .
والتعاطي مع الشريعة على أنها تقاطعات حديّة، و انحصار الفتوى في قوالب الأحكام التكليفية الخمسة بعيداً عن ملامسة الحياة وطبيعتها المعقدة والمتشابكة ليبعدها عن أهم سماتها من المرونة و السماحة التي كثيراً ما يفخر أبناء الإسلام بتميز شريعتهم بها .
هذا الحسّ عند معالجة الفتوى يغيب كثيراً عن الطروحات الشرعية التي في الغالب ما تقتصر على عرض آراء العلماء، و أدلتهم، ثم لا تتجاوز الترجيح، مما قد يخلق مشكلاتٍ اجتماعية، أو نفسية عند التطبيق و الإسقاط على أرض الواقع .
و الفقهاء رحمهم الله لامسوا هذا الجانب كثيراً في ثنايا ما سطروه وما أُثر عنهم، الأمر الذي يؤكد إحساسهم بتوقع ربكةٍ قد تحدثها الفتوى إذا لم تسقط على حياة الناس و تتعامل مع التعقيدات الدقيقة لإنسانيتهم وواقعهم .
وقد تكون مسألة الولاية على الفتاة البكر البالغة إحدى الشواهد المعززة لذلك؛ إذ أن الفقهاء عندما قرر بعضهم جواز إجبار الفتاة البكر البالغة على الزواج ترسخ ذلك في صميم الثقافة العربية و البنية العقلية لدى المسلمين، وعليه اعتقد بعض الأولياء في الولاية سلطة تمنحهم أحقية فرض إرادتهم ونظرهم المستقل على حياة تلك المرأة ومصيرها الأسري .
و انطلاقاً من هذا التصور – أي تصور الولاية كحق خالص للولي – يعمد بعض الأولياء إلى إكراه الفتاة إمّا على الزواج بمن لا ترغب، أو في الطرف الآخر يعمد بعضهم إلى عضلها والوقوف حجر عثرة أمام رغبتها فيه، والمشكلة الاجتماعية الحقيقية في اعتقادهم في كل ذلك شرعية ما يسلكون .

وهذه القضية ذات أبعادٍ خطيرة باعتبار أن الزواج منعطفاً مفصلياً في حياة الجنسين و الأسرة و المجتمع أيضاً باعتباره الحاضن الكبير و المصب الأخير لآثار السلوكيات الفردية .
هذا المشكل عزّزه انتشار الخطوط العريضة لأقوال الفقهاء في هذه المسألة بين عامة الناس دون تفاصيلها الدقيقة مما حوّلها بسطحية تلقيها عن الفقهاء إلى ثقافة مجتمعية .
في حقيقة الأمر أن المدقق في كلام العلماء، و الناظر في زواياه المختلفة، و السابر لتعليقاتهم المترافقة مع الحكم الشرعي يوصله التدقيق والسبر إلى التقائهم حول مركز جوهري من اعتبار المصلحة ودرء المفسدة رغم ما يبدو للنظرة الخاطفة من تضادٍ وتوازٍ في خطوط اتجاهاتهم .
ومما يبرهن على ذلك أن جمهور علماء المالكية، و الشافعية، والحنابلة الذين أجازوا إجبارها مخالفين بذلك الحنفية المانعين، هؤلاء الجمهور رغم تقريرهم ذلك في خطوط أقوالهم العريضة إلاّ أنهم وضعوا شروطاً وضوابط وسياجات تضمن الحماية من وقوع الضرر في السلوك الاجتماعي عند التطبيق ، ويمكن حصر هذه الاحتياطات فيما يلي :
أولاً: يحصر المالكية والحنابلة هذا الحق في الأب فقط؛ لكمال شفقته في الغالب، وعدم مساواة غيره له فيه، والشافعية يضمون إليه الجد لمساواته للأب في الشفقة والنظر لها .
يقول الإمام ابن تيمية:( وليس للعم، ولا لغيره إجبار البالغة على النكاح بكفء، فكيف بغير كفء ) .
ثانياً: رغم حصرهم الإجبار في الأب والجد إلاّ أنهم لا يجعلونه منفلت عن الضوابط التي تضمن عدم الانحراف إلى التعسف في استعمال الحق، فاشترطوا الشروط التالية :
1- ألاّ يكون بينها و بين الولي عداوة ظاهرة
2- أن يزوجها من كفء مع اختلاف نظرهم في خصال الكفاءة و التقديم و التأخير بينها.
3- أن يزوجها بمهر مثلها .
4- أن يكون المهر من نقد البلد .
5- ألاّ يزوجها من معسرٍ بالمهر .
6- و تفرد الشافعية باشتراط انتفاء العداوة بينها وبين الزوج، مع ملاحظة عدم تقييدها هنا بالظاهرة التي وضعوها للأب، مما يدل على اشتمالها للعداوة الباطنة أيضاً، وهذا يشير ضمناً إلى اعتبار الرضا .
7- كما أضاف الحنابلة أن يكون الولي- وهو الأب عندهم – راشداً عارفاً بالمصالح، لا شيخاً كبيراً جاهلاً بالمصلحة .
ثالثاً: المالكية مع سيرهم في الاتجاه القائل بجواز الإجبار في الجملة إلاّ أنهم يقررون حالات لا يصح فيها إجبار الفتاة البكر البالغة على الزواج أو عدمه، وتتلخص في الحالات التالية :
1- البكر التي تقدم بها السن؛ إذ هي بحكم سنها لديها معرفة بالمصالح و المفاسد والموازنة بينها .
2- المرشّدة: ويقصد بها التي اعترف لها أبوها بالرشد في التصرف لحسن تصرفها، فهذه حق لها إطلاق إرادتها في الاختيار اطمئناناً إلى قرارها .
ولعل هذه الشرارة المالكية تقرر دور التربية، و التنشئة الاجتماعية في ترشيد الإنسان بصفته إنساناً بغض النظر عن الجنس .
رشد أفراد المجتمع ما هو إلاّ انعكاس طبيعي لترشيد المجتمع، وقد يتخذ ترشيد المجتمع للرجل نموذجاً صالحاً للقياس عليه .
فالمجتمع يرشّد الرجل كجنس رغم أنه يوجد في آحاد الرجال من ليس براشد، بل وفي آحاد النساء من هنّ أرشد من بعض آحاد الرجال، والعكس صحيح؛ إذ الرشد حالة عقلية ونفسية لا تخلق في الفرد بحكمٍ خارجي منفك عن تأصلها في ذاته من خلال التربية، والتنشئة الاجتماعية، إضافة إلى الاستعدادات الشخصية، يقول الله عزّ و جلّ:( أليس منكم رجل رشيد ) .
وقد لفت النظر إلى ذلك الإمام الشافعي رحمه الله حين قال :
( والرجل في بعض أمره في معنى الأيامى الذين على الأولياء أن ينكحوهن إذا كان مولى بالغاً يحتاج إلى النكاح، ويقدر بالمال فعلى وليه إنكاحه، فلو كانت الآية و السنة في المرأة خاصةً لزم عندي الرجل؛ لأن المعنى الذي أريد به نكاح المرأة العفاف لما خلق فيها من الشهوة وخوف الفتنة، وذلك في الرجل مذكور في الكتاب؛ لقول الله عزّ وجلّ:( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ..... ).
فالإمام الشافعي وهو الذي يرى جواز إجبار الفتاة البالغة على الزواج خوفاً عليها من الفتنة التي قد تجرها إليها الشهوة فتعمي فيها بصيرة الرشد، يرى أن ذلك متحقق في الرجل بل و بالنص الشرعي الذي أورده مما يكون مبرراُ قوياً في تساويه مع الأنثى في هذه النزعات النفسية التي فطرها الله عليها، وعليه بنى أن من حق الولي فرض الزواج عليه جبراً حماية له ولمحيطه المجتمعي .
و هي لفتة دقيقة من الإمام الشافعي رحمه الله في رصد المعتملات النفسية للجنسين، و إنصاف يؤكد حضور بصيرة الفقيه واقع الحياة والناس .
قد نختلف معه في الإجبار وقد نتفق، إلاّ أننا لا نملك إلاّ أن نتفق معه على مبدأ المساواة الذي تؤسسه الشريعة الإسلامية حين تتعامل مع النفس الإنسانية كنفسٍ محترمة تعتملها جميع المشاعر و الاحتياجات بغض النظر عن جنسها .
ثم إن المرأة التي يتحدث عنها الفقهاء هي امرأة زمانهم التي عاشت تلك العصور وكان دورها في الغالب منحصراً داخل بيتها، ولم يشهد لها زمنها حضوراً أو مشاركة كبيرة في التنمية الاجتماعية، وهي غير امرأة اليوم التي وصلت لأعلى المناصب والمراكز العلمية و الإدارية تاركة خلفها بصمة عميقة الأثر لا يمكن إنكارها في جميع المجالات .
امرأة كهذه كيف يملك المجتمع عدم الاعتراف برشدها وقدرتها على التصرف و اتخاذ القرارات لغيرها، فضلاً عن اتخاذها لنفسها من باب أولى، فالقضية في منتهاها لا تعدو عن كونها عرفاً اجتماعياً لحالة نفسية للجنسين في وقتٍ معين تغيره الأعراف و الحراك الاجتماعي .
3- البكر التي عضلها وليها ومنعها من الزواج سواءً كان المانع أباها، أو غيره .
4- البكر التي زوجت بعَرَض- أي بغير الذهب والفضة – وهي من قومٍ لا يزوجون به، ولا أب لها ولا وصي ينظر في مالها .
5- البكر التي يزوجها غير أبيها .
6- كما لا تكره الفتاة على الزواج بذي عاهة .
رابعاً: حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم الذي هو مستند الاتجاهات المختلفة في الولاية:( الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها و إذنها صماتها )، ليس مقتضاه التفرقة بين البكر و الثيب في الإجبار وعدمه بقدر ما هو إلماح متكئ على الواقع لنفسية المرأة بين الثيوبة والبكارة؛ فلما كانت الثيب أكثر خبرة بأمر الزواج، وربما تعرضت للفساد لو منعت، كان لها أن تخطب إلى نفسها، و أن تأمر وليها بتزويجها وتطلب الزواج .
على خلاف نفسية البكر الأكثر ميلاً إلى الحياء وعدم الإفصاح و التي رتب عليها الشارع أن يكون سكوتها إحدى العلامات التي ترجح قبولها للزواج، وإن كان ليس علامة يقينية حين يخضع للتغيرات الاجتماعية عبر الزمان والمكان، وقد لفت لذلك الإمام ابن حجر، وابن تيمية، وابن رشد الحفيد رحمهم الله، ولهم في ذلك كلام في غاية النفاسة .
خامساً: نظر كثير من فقهاء هذا الاتجاه إلى اعتبار رأي الأم في تزويج ابنتها لما له من أثر نفسي و اجتماعي في استقرار حياتها الزوجية؛ استناداً إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:( آمروا النساء في بناتهن ).
يقول الحطّاب وهو احد علماء المالكية :
( لأنه إذا كان برضاها حسنت صحبة زوج ابنتها ).
سادساً: القائلون بإجبارها يقولون بعدم جواز تزويج أمتها بدون رضاها فيكون القول برضاها لنفسها من باب أولى .
سابعاً: يعتبر القائلون بالإجبار المرأة رشيدة في مالها لا تجبر على تصرفٍ معين فيه، كما لا يجوز التصرف فيه دون رضاها، فإن كان هذا شأن المال الذي لا يترتب على ضياعه مفسدة بحجم ضياع النفس و المجتمع فيكون في شأن النفس من باب أولى .
وبهذا يظهر أن خلاف الفقهاء حول اعتبار رضا المرأة في العقد بالتفاصيل التي أوردتها عنهم لمؤشر قوي على إحساسهم بالأبعاد التي تحدثت عنها، وإدراكهم لآثار الإجبار في تعاسة الفتاة وإلحاق الضرر بها، وربما عدم إعفافها الذي هو المطلوب الأعظم للزواج عندما لا تكون مقتنعة بالزوج، وربما أدى بها ذلك إلى التطلع لغيره مما ينعكس سلباً على أسرتها وعلى المجتمع .
وهذا يعضد أن أحكام الفقهاء لم تنفك عن النظر المقاصدي في الإصلاح على الصعيدين النفسي و الاجتماعي قصداً إلى إرساء سفينة المجتمع بما فيه من تقاطعات حقوقية، فردية وجماعية على واقعٍ متسقٍ سعيد، سفحه الأمان، وقمته سعادة الإنسان .
يروي الإمام ابن أبي شيبة عن السيدة عائشة رضي الله عنها:( أنها كانت إذا هوى الفتى من بني أخيها الفتاة من بني أختها ضربت ستراً بينهما وتكلمت فإذا لم يبق إلاّ النكاح قالت: يا فلان أنكح فإن النساء لا ينكحن ) .
وهذا الأثر عن السيدة عائشة رضي الله عنها وبعد نظرها يهوِّن الخلاف حول اعتبار كلمة المرأة في العقد ومباشرتها له بنفسها .
لأن الزواج متى تأسس على أرضية اجتماعية جيدة متفهمة لرغبة ورضا أفرادها لن يضير بعدها من يباشر العقد.
بل عندها يظهر الدور الحقيقي للأولياء كما أراد الشرع في معاضدة المرأة ومساندتها في أهم قرار تتخذه لنفسها، ويكون تولي عقدها بعد موافقتها مشاركة لها في فرحتها؛ وإرفاعاً لقدرها ومكانتها؛ ونيابة عنها في وقتٍ تكون فيه مشغولة بما يتطلبه الزواج من أمور زينتها، فيتم في جو ملئ بالحب و السعادة .
يعضد هذا المعنى مفهوم الولي في اللغة المتردد بين هذه المعاني جميعها، فهو الصاحب، والنصير، والمحب، والحليف، والشريك، والقريب، والجار، وليس هو المستبد، أو المتسلط، أو القائم عثرةً في سبيل سعادة المولى عليها .
وهكذا يظهر أن الفقهاء عاشوا واقع أزمانهم بأحداثه وتفاعلوا معه ربما أكثر مما صنع خلفهم و مما صنعنا نحن أيضاً .